علام يختلف المصريون الآن؟!

TT

بات الزمن مواتيا للثورة حتى ظهر لها أريج يانع في العالم العربي، ووجدت الفضائيات التلفزيونية ما تحتفل وتحتفي به، ومن عجب أن ثوار الأمس في سورية ولبنان وفلسطين الذين فرحوا للغاية ساعة الثورة في مصر وتونس والبحرين، ارتج عليهم القول، بل وتدخلوا بقسوة، عندما وصلت الرياح إلى ليبيا واليمن والجزائر. اختلط الأمر بين الثورة والثورة المضادة، وبات اكتشاف الخيط الأبيض من الأسود عند ظهور الفجر من الأمور المستحيلة.

الحالة في مصر دخلت إلى مراحلها الصعبة بعد أن ذهبت السكرة - رحيل الرئيس ودخول أركان من النظام إلى السجن - وجاءت الفكرة عما هو مطلوب فعله سواء فيما يتعلق بالتخلف الذي لم ينجح النظام القديم في تجاوزه وافترضت الثورة أنها جاءت لكي تخلص العباد منه؛ أو ما له علاقة بالتراكمات التي أوجدتها الثورة ذاتها. فربما كان ثوار مصر لهم القدرة على تنظيف ميدان التحرير، والميادين والشوارع المصرية بعد ثورة عاصفة، إلا أن ما هو أصعب هو تنظيفها من المجرمين وأصحاب السوابق و«المسجلين خطر» والساعين إلى الفتنة الطائفية والباحثين عن المصالح الفئوية، وقبل وبعد كل شيء إصلاح الاقتصاد الذي بات على حافة جرف هائل.

المهمة صعبة وقاسية، وعندما يكون كذلك فإن الثوار على اختلاف أشكالهم يصبحون أكثر هدوءا ويبحثون عن «خريطة للطريق» للخروج مما نحن عليه، والوصول إلى حيث ينبغي أن نكون. وفي الوقت الراهن ينقسم المصريون بين طريقين: أولهما يبدأ بالتعديلات الدستورية التي قوامها التخلص من كل عيوب الدستور القائم - المعطل - فيما يتعلق بالانتخابات العامة سواء تلك الخاصة بالبرلمان أو تلك المتعلقة برئيس الجمهورية. هذه التعديلات سوف تطرح للاستفتاء الشعبي يوم 19 مارس (آذار) الحالي، فإذا أجازها الشعب فإن الاستعدادات سوف تبدأ فورا لانتخاب مجلسي الشعب والشورى، وبعدهما رئيس الجمهورية الذي يقوم بقسم يمين الولاء أمامهم كما هو متبع في الدساتير الجمهورية السابقة. ووفقا لمادة أضيفت في التعديلات الجديدة فإن البرلمان سوف يختار هيئة جديدة تقوم بإعداد دستور جديد للبلاد يتلافى كل ما في الدستور القديم من عيوب، وساعتها سوف يطلع فجر ديمقراطي جديد على ضفاف النيل.

الطريق الثاني يأخذ منحى مختلفا منذ البداية فهو يريد من المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي هو مناط السيادة في البلاد الآن، أن ينقل سلطاته إلى مجلس جمهوري مكون من ثلاثة أو خمسة، يكون بينهم شخصية عسكرية مرموقة، بالإضافة إلى شخصيات مدنية ذات تاريخ وطني يتم التوافق عليها، أي مرموقة أيضا. هذا المجلس يصدر معه إعلان دستوري مؤقت، محدود التفاصيل، ولديه اكتفاء بكل ما يتعلق بحرية العمليات الانتخابية التي تبدأ بانتخاب رئيس الجمهورية الذي عليه أن يقسم اليمين أمام رئيس المحكمة الدستورية العليا، وبعد ذلك يعمل رئيس الجمهورية على دعوة الشعب إلى انتخاب جمعية تأسيسية تقوم بوضع دستور جديد تجري على أساسه الانتخابات البرلمانية، وهكذا يكتمل النظام السياسي في البلاد ويصل إلى غاياته الديمقراطية.

الطريقان كما هو واضح يلتقيان في ضرورة وجود دستور ونظام سياسي جديد عند نهاية الطريق، ولكنهما يختلفان بعد ذلك في كل شيء آخر. فهناك خلاف فلسفي عميق حول ما إذا كان التغيير الثوري الجديد يعني امتدادا لماضي الدولة المصرية ومن ثم كان الطريق الأول؛ أو أنه يمثل قطيعة معها وبداية جديدة ومن ثم كان الطريق الثاني.

وهناك خلاف زمني فالطريق الأول اعتمد أساسا على ما وعد به المجلس الأعلى للقوات المسلحة بأن يقوم بعملية التحول إلى الديمقراطية خلال ستة شهور فقط، بعدها يعود الجيش إلى الثكنات ليباشر مهامه الأصلية. أما الطريق الثاني فهو يريد وقتا أطول قد يمتد إلى عام أو حتى عامين حتى تولد أحزاب جديدة ويشتد عودها وتغرس جذورها ومن ثم تستطيع أن تدخل الانتخابات ويكون لها فرصة للنجاح.

مثل ذلك يصل بنا إلى الخلاف السياسي وراء ذلك كله، فأنصار الطريق الأول يرون أن الثورة من ناحية قد هزت البلاد كلها وأعادت تعريف القوى السياسية المختلفة، ومن ثم فإنه لا يوجد خوف من أنصار الحزب الوطني الديمقراطي الذي تحلل فعليا، ولا حتى من الإخوان المسلمين لأن آليات التصويت الجديدة بالرقم القومي، ووفقا للقائمة النسبية، سوف تجعل الإقبال على الانتخابات كثيفا إلى الدرجة التي لا تسمح لأي من أطراف اللعبة السياسية بالسيطرة والهيمنة. أكثر من ذلك فإن الرأي في النهاية للشعب، ولا يوجد في كتب الديمقراطية ما يحتم إعطاء الفرصة للثوار لكي يقودوا بالضرورة وإلا ما كان هناك سبب للثورة في المقام الأول. وإذا كان مطلوبا إعطاء مزيد من الوقت للثوار، فإن الزمن مطلوب أكثر للتفكير في دستور جديد حيث تكون الأعصاب الفائرة أكثر هدوءا، والعواطف الهائجة أكثر برودة.

وعلى العكس فإن أصحاب الطريق الثاني متشائمون، لأن القوى المنظمة في المجتمع هم «فلول» الحزب الوطني الديمقراطي التي لها جذور داخل العشائر والعائلات، والإخوان المسلمون المنظمون طوال الوقت والممتلئة خزائنهم بالموارد، ومن ثم فإن نتيجة الانتخابات إذا ما أجريت وفق جدول الطريق الأول لن تختلف كثيرا عن نتيجة عام 2005 دون تزوير هذه المرة! ولكن الأهم من ذلك هو أن الدستور «المعطل» قد سقط مع نقل سلطات رئيس الجمهورية إلى المجلس العسكري، ومن ثم فإن ما يحدد الشرعية في مصر الآن ليس الشرعية الدستورية والتي يضفيها دستور عام 1971، وإنما الشرعية الثورية التي جاءت من ميدان التحرير أو من ثورة الخامس والعشرين من يناير وهذه تضع من التوقيتات وخرائط الطريق ما يتناسب مع أهدافها. ومن بين هذه الأهداف يوجد وضع دستور جديد، يعتقد معظم الثوار أنه يمكن إعداده خلال فترة قصيرة لأنه موجود بالفعل إما من خلال تجهيز الدستور المغدور لعام 1954 أو دستور آخر يضعه مجموعة من الفقهاء المشهود لهم بالكفاءة وهم كثر.

هنا نجد خلافا كبيرا في التقدير لخطورة وضع دستور جديد، الأولون وجلون ويريدون كل الوقت المناسب، والروية الكافية، لوضع الدستور الذي هو أبو القوانين في البلاد؛ والآخرون يرونها مسألة سهلة حيث لا توجد خلافات جوهرية، وغياب للتوافق الوطني حول المدى الذي يذهب إليه الدستور في مدنية الدولة ودورها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين.

هذه الخلافات ربما تبدو خارج مصر شكلية، ولكنها ربما ستكون هي التي تشكل المسار الذي تمضي عليه التطورات المقبلة التي ستكون نقطة البداية فيها من سيذهب إلى الاستفتاء يوم السبت القادم، وكم عددهم؟