تونس والجمهورية الثانية

TT

ما يحصل اليوم في تونس مثال حي على العلاقة العضوية والقوية التي تربط الطموح بالحرية، وكيف أن المزيد من التعمق في فكرة السيادة للشعب يفتح للنزعة المطلبية آفاقا رحبة لا تعترف بالسقف العادي، وذلك وسط إرادة متنامية لاستيعاب معنى الثورة، من زاوية أنها رأسمال خاص جدا من الحماسة والطموح. هذه الروح السياسية التونسية الجديدة، يدل عليها بوضوح شديد إيقاع الحراك السياسي الذي أصبح قاعدة في المشهد السياسي التونسي بعد أن كان استثناء ضعيف التواتر.

ولقد شكلت استقالة الوزير الأول التونسي محمد الغنوشي ليحل محله سياسي مخضرم متقدم في العمر هو السيد الباجي قائد السبسي الذي اضطلع في آخر مهمة رسمية له برئاسة مجلس النواب في أوائل حكم بن علي، حدثا مهد بدوره لمنعرج نوعي على مستوى المستقبل السياسي في تونس. ولعل التوقف قليلا عند أسباب «الانقلاب» على حكومة محمد الغنوشي رغم التعديلات المتتالية، التي قامت بها إرضاء للمطالب السياسية، يساعدنا على فهم خارطة الطريق الوفاقية الراهنة في تونس.

فمن أهم الأسباب هو رفض حكومة الغنوشي الاعتراف بما يسمى «مجلس حماية الثورة»، وهو مجلس يضم نحو 29 من الفصائل السياسية والمنظمات الأهلية، يطالب بدور تقريري يمكنه من المشاركة في أخد القرار مع أعضاء الحكومة رافضين في نفس الوقت اقتراح الحكومة المتمثل في الاضطلاع بوظيفة استشارية. ورأى أصحاب مبادرة مجلس حماية الثورة أن حكومة الغنوشي لا تعكس استحقاقات الثورة، التي حصلت في تونس وأنها مواصلة للنظام القديم مع جرعات إصلاحية لا أكثر ولا أقل.

وبالتالي، فإن رفض مشاركة ما يسمى «مجلس حماية الثورة» في قرارات الحكومة هو جوهر دواعي الانقلاب عليها من خلال آليات الاعتصام والمسيرات والإضرابات، إضافة إلى معطى آخر لا يقل أهمية وهو مطالبة المجتمع المدني ببعث مجلس تأسيسي لصياغة دستور جديد على ضوئه يتحدد شكل النظام السياسي القادم وغيره.

وتحت ضغط الصراع غير المعلن على السلطة واستمرار اعتصام الآلاف من المواطنين كادت تدخل البلاد في نفق مظلم من الانفلات الأمني، تمظهر في أعمال تخريب وحرق ونهب وسقوط بعض القتلى، وهي أعمال أطلت بالبلاد على نقطة مفجعة من الضعف الأمني. ففي ضوء تجاذبات سياسية ومخاوف من شغور منصب رئيس الجمهورية المؤقت باعتبار أن يوم أمس (15 الشهر الحالي) يمثل دستوريا نهاية المدة، ناهيك عن استقالة الغنوشي، وما يرمز إليه من ضمانة اقتصادية، دون أن ننسى ما تردد في الشارع السياسي التونسي من فرضية سيناريو إمساك الجيش بالسلطة، في ضوء كل هذا تم الوفاق حول خارطة طريق سياسية جديدة هي خلاصة تسوية بين مختلف الأطراف السياسية الضاغطة والمضغوط عليها!

وأهم مضمون في خارطة الطريق الجديدة، هو التمهيد لبناء جمهورية ثانية في تونس، ذلك أن إعلان رئيس الجمهورية المؤقت فؤاد المبزع قرار بعث مجلس وطني تأسيسي، يتم انتخاب أعضائه يوم 24 يوليو (تموز) المقبل من أجل وضع دستور جديد، يعني قانونيا وعمليا أن الدستور الحالي انتهت صلاحيته وتم إيقاف العمل بمقتضى بنوده، بدليل أن الرئيس المؤقت سيواصل مهمته إلى تاريخ انتخاب المجلس الوطني التأسيسي مستبدلا شرعية الدستور الملغاة بشرعية الثورة واستحقاقاتها، وكذلك الشأن بالنسبة إلى حكومة تصريف الأعمال المؤقتة.

ويبدو أن الرئيس المؤقت نجح من خلال مسايرة الشارع السياسي في مطلب المجلس الوطني التأسيسي بفك الاعتصام وفي إضعاف مطلب مجلس حماية الثورة وإقحامه في إطار لجنة الإصلاح السياسي، دون تلبية لمسألة المشاركة في القرار، خصوصا أن من الإجراءات الأخرى المتخذة أنه لا يحق لأي عضو من أعضاء حكومة تصريف الأعمال الحالية الترشح للرئاسة باعتبار أن عضويته يمكن أن تستثمر في الدعاية غير المباشرة.

ولكن وإن كان الوفاق قد تحقق إلى حد ما والتسوية السياسية الذكية شقت طريقا إلى النور، فإن دواعي القلق السياسي لا تزال قائمة، حيث إن النظام الانتخابي الذي سيعتمده المجلس الوطني التأسيسي لم يوضّح بعد، إضافة إلى أن خارطة الطريق السياسية الجديدة، جعلت من الانتخابات الرئاسية مسألة مؤجلة إلى حين غير مسمى إذ لا سقف زمنيا يحدد مهمة هذا المجلس، وهي نقطة من المهم الانتباه إليها، كي لا تطول فترة الإعداد الحقيقي للانتقال إلى الديمقراطية أكثر مما يجب، وإن كانت انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، ستقدم لنا فكرة عن حقيقة وزن القوى السياسية كافة في ميزان الشعب التونسي.