الكتالوغ التونسي!

TT

ثمة أوهام كثيرة وئدت في «سيدي بوزيد» و«التحرير».. هذا مما لا شك فيه، لكن الأكيد أيضا أن أوهاما أكثر ولدت وستأخذ طريقها في الوعي الجمعي للجماهير من المحيط إلى الخليج، كما يقال عادة، لغة الحنين للثورات الشاملة، ولكن ترسخها مرهون بلحظة اصطدامها بواقع آخر مغاير تنتجه تلك الظروف المعقدة التي تصنع التغيير، بينما يقطف ثمار التغيير عادة شخص «البوعزيزي» أو أشخاص قلائل (شباب التحرير) تجسدت فيهم تلك العوامل التي طبخها الواقع على مهل.

هل من المهم لنا ولهم وللعالم أن نفكر طويلا في أسباب الثورات وعواملها الكامنة أو المباشرة، أم أن الأهم هو التفكير بما بعد مرحلة الثورة باعتبار أنها المحك الحقيقي لتقييم التجربة إجمالا حتى لو اتفقنا ابتداء - في زمن الثورات لا تغفل البديهيات - أن الوضع في مصر وتونس كان من الاحتقان في الشارع والهشاشة في بنية النظام الحاكم ما جعل التغيير مسألة وقت ليس إلا؟

هذا السؤال يكاد - تجاوزا - يكثف ما نشهده من جدل في الدول العربية المتلقية للثورة أو المستنسخة لها أو القلقة منها أو حتى تلك التي لديها يقين أنها في منأى عن الثورات، لكنها ملزمة بدفع فاتورة «الحدث» في شكل أثمان تنموية وسياسية وإصلاحية.

الفائزون بثمرة «الثورة»، باعتبارها مكسبا ذاتيا وإنجازا عظيما لجيلهم، توقفوا عند لحظة الثورة؛ حيث لم تذهب السكرة ولم تأت الفكرة، هذا الجيل الذي كان ينظر إليه عادة باستخفاف تبعا لطبيعة اهتماماته ووعيه بذاته وانصهاره تقريبا في تيار معولم عام لم يكن - كما تحلل السلطة عادة - مكترثا بالمجال السياسي، عطفا على انغماسه الشديد في تمظهرات العولمة المعاصرة وتجلياتها التقنية.

من جهة أخرى، الفئات غير الفاعلة بشكل مباشر، وإن كانت قد تعاطفت مع الثورة بحكم مضامينها السياسية المتفق عليها، انقسمت على ذاتها وأخذت تعيش مرحلة «جلد الذات» بمازوخية فكرية بدت في كثير منها تنصلا من كل تاريخها السابق الذي أسهم في التهيئة للمرحلة إذا اعتبرنا أن التغييرات الكبرى في أي مجتمع تأخذ سياقات زمنية طويلة بحيث تصعب الإشارة بإصبع التأريخ للبداية كما النهاية.

انتقال الثورة بما يشبه «الوباء المجتمعي»، وهو عادة مصطلح يستخدم في رصد الظواهر الاجتماعية التي تنتقل بفعل الميديا والمحاكاة، مع عدم تطابق المناخ، أو كما يعبر القانونيون والفقهاء عادة، وجود الشروط وانتفاء الموانع يقوداننا للحديث عمَّا يمكن تسميته بـ«الكتالوغ التونسي»، في إشارة إلى أن استنساخ التجربة التونسية، على الأقل كرغبة ملحة في قطاعات عريضة في البلدان العربية، هو ظلم للتجربة التونسية، وقد يقود إلى حالة «افتعال» سياسي تختلف عواقبه باختلاف مدى التطابق في الشروط، مثل نوعية الطبقة الوسطى ومستوى التعليم وكل الحزمة البورقيبية التي صنعت المجتمع التونسي، ولا يقل أهمية كذلك انتفاء الموانع التي نجدها حاضرة وبشكل عنيف في بلدان أخرى كليبيا واليمن والبحرين، بغض النظر عن مدى استحقاق الواقع في تلك البلدان إلى طريقة وشكل التغيير، فالتجانس والمواءمة الدينية في بلد يدين بالإسلام كهوية عامة وتتسع فيه رقعة خطاب المدنية/ العلمانية كتونس، كممارسة وليس فقط كدستور وغياب التعقيدات القبلية والإثنية والطائفية والمذهبية... إلخ الثنائيات الحارقة التي تلهب المجتمعات الأخرى وتقودها إلى مستقبل مخيف ليس فقط في حال تغيير النظام؛ حيث أعتقد أن إسقاطه ليس إلا لبداية الدخول في تجربة طويلة من ملء الفراغ السياسي، التي تنتج بالضرورة متوالية من التعثر الاقتصادي ونهوض الهويات الصغيرة وتفشي الأمراض الاجتماعية التي كانت غائبة بفعل قوة السلطة، وهذه كلها إشكاليات تخص الاستحقاقات الداخلية لواقع تلك البلدان، ولا شك أن من المهم الأخذ في الاعتبار كل العوامل الخارجية كالعلاقة بالغرب والموقف من القضية الفلسطينية والإشكالات الحدودية والملف النووي.

الحدود الفاصلة بين الجيش والسلطة والشعب ربما كانت إحدى خصوصيات الحالة التونسية، وربما المصرية، بينما تصبح حالة أقرب للتطابق في النظام الليبي، وإلى حد ما الحالة اليمنية؛ حيث العلاقة مسألة وجود مرتبطة بشكل طردي بين الطرفين بحكم التراتبية العسكرية المكونة لتلك القوات، التي تعتمد على تعقيد بالغ فيما يخص عسكرة القبيلة، صحيح أن كثيرا من تلك القوات قد يفقد ولاءه إذا شعر أن المعركة لا تتجه لصالحه، إلا أنه من الصعب تخيل تحوله إلى طرف محايد للشعب، بشكل أدق للمواطن، الذي لا يشاطره الانتماء للقبيلة، الجدار الصلد الذي لم تستطع السلطة تفتيته حتى بعسكرته بل كل ما فعلته وعبر سنوات طويلة هو شراء ولائه.

إذا كان النموذج التونسي هو الأقرب، ربما على المدى القصير للنجاح، إذا اعتبرنا أن الثورة تجربة تقيم بما بعدها، فإنني هنا أستحضر خصوصية الحالة التونسية، وعلى لسان شخصية محسوبة على الإسلاميين التنويريين في تونس، الذين يؤكدون أن ثمة علاقة وطيدة بين ديمقراطية المجال السياسي في التعددية التونسية والقيم العلمانية التي رسخها نظام بورقيبة، بحيث تحولت فترة الرئيس بن علي إلى ما يشبه حالة كمون خرج فيها عن النص التونسي المدني إلى الاستبداد المتلبس بالعلمانية الشمولية، ومن هنا فالحالة التونسية تنجح بفعل الديمقراطية، الخطاب والثقافة، وليس حزمة الإجراءات التنظيمية، وهذا لا يعني أنها لن تتطور هنا بحكم وجود فاعلين جدد من الإسلاميين الذين يدركون جيدا التفاصيل الصغيرة للمجتمع التونسي.

لنقل إن الكتالوغ التونسي، كما يطرح وبشكل انفعالي عاطفي متفهم جدا، أحد تلك الأوهام الكبيرة التي يجب ألا تجعلنا الثورات - وهي كما يبدو قدر المرحلة في أجزاء كثيرة من عالمنا العربي - منخدعين.