تفاصيل الساعات العصيبة

TT

تنفست الصعداء وأنا أرى واجهة المتحف المصري شامخة تخفي وراءها أسرار وكنوز الفراعنة العظام، لكن شيئا ما لم يكن طبيعيا، وبدا لي المتحف المصري كرجل عظيم خرج لتوه من غرفة عمليات متشبثا بالحياة والاستمرار. لم أسيطر على الدموع في عيني وتمنيت لو أن ذراعي تقويان على احتضان المتحف والانصهار فيه.. جلست على كرسي بسيط عند المدخل الرئيسي ملتمسا دفء أشعة شمس الصباح، وإلى جواري كان يقف مدير المتحف المصري، وهو شاب لم يكن قد أمضى في منصبه هذا أكثر من أربعين يوما خلفا للمديرة السابقة التي أحيلت إلى المعاش، وكان معه بعض أفراد من قوات الجيش، وكذلك بعض من الشباب المصري الذي كان بالأمس يدافع عن المتحف ضد هجوم المجرمين.. وبدأوا يقصون عليّ تفاصيل أصعب خمس ساعات مضت على المتحف المصري في تاريخه الممتد إلى أكثر من مائة وعشر سنين.

كانت الأمور في ميدان التحرير تنبئ بالخطر، خاصة بعد اكتمال وصول حشود غفيرة من شباب مصر بعد صلاة الجمعة إلى الميدان واصطدامهم بقوات الشرطة وسقوط ضحايا عزل من شباب مصر الذي أصر على التعبير عن نفسه. لينفجر أتون الغضب، وتبدأ الفوضى تعم أرجاء الميدان وحوله. وقبل مغيب الشمس ذلك اليوم تأكد عجز الشرطة عن الإمساك بزمام الأمور، فكانت الأوامر واضحة وصريحة بضرورة نزول الجيش إلى الشارع المصري، وعقب ذلك مباشرة وقبل وصول أول جندي مصري إلى ميدان التحرير اختفت قوات الشرطة وكأن الأرض ابتلعتها، وفي دقائق كانت حالة من الهياج تسيطر على ميدان التحرير.. شباب فرح بصموده، وحشود من البلطجية والمجرمين يخرجون من جحورهم بمجرد إحساسهم باختفاء الشرطة، وانتهزوا الفرصة وبدأوا سلسلة من أعمال التخريب والنهب والسرقة وترويع مصر كلها.. كانت الشرارة الأولى الحريق الذي شب في مبان مجاورة للمتحف المصري تحتلها عدة مجالس وهيئات، ومن ضمنها مبنى للحزب الوطني وكذلك فرع لأحد البنوك، والذي تم نهبه بالكامل، وبدأت وفود المجرمين تندفع ناحية المتحف من جهاته الأربع، واستطاع البعض تسلق الأسوار والنزول إلى داخل حديقته. كان شباب مصر منتبها لما يحدث، وفي رد فعل سريع وحازم اندفع مئات من هؤلاء إلى تطويق المتحف ممسكين بأيدي بعضهم بعضا عازمين على عدم السماح لأحد بالدخول أو الخروج من المتحف. وأثناء هذه الساعات التي سبقت وصول قوات الجيش المصري إلى المتحف كان هناك كثير من قصص البطولة والمغامرة، فهذا شاب ملامحه مريبة يحاول تسلق الجدار الشمالي للمتحف عند ميدان عبد المنعم رياض للهروب منه، لكن شباب مصر منعوه مرة وأخرى، حتى فوجئوا به يقفز من فوق السور ممسكا بقضيب من الحديد ليصيب به عددا منهم قبل أن يفر هاربا.. وآخرون يحملون أسلحة بيضاء يقتحمون بيت الهدايا الملحق بالجانب الغربي ويسرقون النماذج المقلدة للآثار التي تباع للزائرين، ظنا منهم أنها آثار حقيقية، وكان بعضهم قد أخذ في تكسير زجاج الجزء الخاص ببيت الهدايا التذكارية من الفضة والذهب، وحدث بين بعض اللصوص وبعضهم نزاع شرس على الغنائم وهم في مسرح الجريمة غير مدركين أنهم لن يستطيعوا الخروج من المتحف بسبب الشباب الحارس الأمين لتراث هذا البلد.. وتستمر ساعات الرعب.