غاب الألق وحضر الأرق

TT

في فيلم «الدكتور دو ليتل»، الذي كان قادرا على التحاور مع الطيور، أغنية لشابة أميركية تحلم برؤية «الأماكن الرائعة» حول العالم: لندن، باريس، روما، فيينا، والقاهرة. يستذكر طارق عثمان تلك الأغنية القديمة في كتابه «مصر على الحافة» ليقول لنا آسفا إن القاهرة لم تعد بين «الأماكن الرائعة». لقد أزاحتها أحداث نصف القرن الماضي عن ذلك الموقع: التقلبات السياسية الحادة، من حليف للسوفيات إلى حليف لأميركا، التقلبات الاقتصادية من الاشتراكية المتقشفة إلى اقتصاد السوق، أربع حروب ورئيس يغتال أمام آلات التلفزيون بعد نزوله المفاجئ في القدس الذي قورن بالنزول على القمر.

تغيرات جوهرية في الرؤية وفي الهوية وفي النهج السياسي والاجتماعي، نقل مصر من مجتمع زراعي يتعلق أهله بالأرض والمياه إلى أكبر مصدر للعمالة الرخيصة في الشرق الأوسط. والبلد الذي كان نموذج السكينة والاستمرارية والتسامح - الكلام دائما لطارق عثمان - ولم يشهد حربا أهلية طوال 7 آلاف سنة، تحول إلى بلد يشهد الصراعات ويصدرها، مع أيمن الظواهري عنوانا رئيسيا للمرحلة.

كانت القاهرة مدرسة العرب وجامعة العرب وأزهر المسلمين. تؤثر في العرب سواء ذهبت إليهم أو جاءوا إليها. «شقة الحرية» لغازي القصيبي تصور لنا أن كل أحلام الشباب العربي في الخمسينات كانت تدور في القاهرة، والطالب البحريني الذي لم ير مسدسا في حياته يذهب للتطوع من أجل القتال في السويس. كانت مصر هي الفنون والآداب والصحافة وملتقى المشارق والمغارب.

تغيرت الدول المشابهة تغيرا مذهلا: كوريا الجنوبية تحولت من اقتصاد خامل إلى بلد ثري ومتقدم تكنولوجياً ودولة قانون. وعبرت دول مشابهة في أميركا اللاتينية (البرازيل، الأرجنتين، التشيلي، البيرو) إلى فئة الدول الصناعية. وعثرت أوروبا الشرقية وروسيا، التي كانت في أنظمة مشابهة، على مواقع جديدة وثابتة ومتقدمة في سائر المجالات. وتحول 40 في المائة من الصينيين والهنود (نحو مليار بشري) إلى طبقة متوسطة.

لا تزال مصر على لائحة الأمم المتحدة للدول الأربعين الأكثر فقرا. والدولة التي كان وزير التعليم فيها طه حسين لا يزال 32 في المائة من أهلها أميين. و40 في المائة عند خط الفقر. كلها أرقام محزنة إذا ما قورنت، ليس بأوروبا وآسيا، بل خصوصا بتركيا وجنوب أفريقيا. لم تعد القاهرة على لائحة أماكن الألق. صارت بين مدن الأرق.