ماذا لو أن محمد بوعزيزي لم يحرق نفسه في سيدي بوزيد؟!

TT

هي مجرد افتراضات: وأولها هل يا ترى الحرب العالمية الأولى كانت ستندلع لو أن ولي عهد الإمبراطورية النمساوية لم يجرِ اغتياله في سراييفو في تلك الحادثة التي نقلتها إلينا روايات التاريخ، ثم هل الحرب العالمية الثانية ما كان من الممكن أن تندلع لو أن أدولف هتلر مات في السجن الذي ألف فيه كتاب «كفاحي»، وهل الاتحاد السوفياتي ما كان سينهار لو أن ميخائيل غورباتشوف لم يصل إلى موقع الأمين العام للحزب الشيوعي في هذه الدولة التي كانت تعتبر ثاني أكبر قوة في العالم..؟!

وكذلك بالنسبة لهذا الـ«تسونامي» الثوري، الذي بات يضرب المنطقة كلها وبات يهزها بكل هذا العنف، فهل كل هذا الذي جرى والذي لا يزال يجري في تونس وفي مصر وفي ليبيا وفي اليمن وفي البحرين وفي دول عربية أخرى ما كان من الممكن أن يكون لو أن ذلك الشاب محمد بوعزيزي لم يحرق نفسه في قريته سيدي بوزيد في السابع عشر من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، ولو أن الرئيس المصري السابق تصرف بطريقة أكثر عقلانية من الطريقة التي تصرف بها، ولو أن العقيد القذافي كان متيقظا لما يجري في بلاده وأدرك حقائق الأمور في بنغازي قبل فوات الأوان..؟!

ربما تبدو هذه التساؤلات منطقية، لكن في حقيقة الأمر فإن مقتل ولي عهد النمسا كان مجرد الصاعق الذي فجر الحرب العالمية الأولى، فالأوضاع الدولية في تلك اللحظة التاريخية كانت في ذروة التوتر وكانت الكتل الرئيسية في حالة من الاستقطاب والتزاحم الشديدين كانت تحتم اللجوء إلى حرب كونية لإزاحة إمبراطوريات وإزالة دول وإعادة تقسيم العالم وفق معادلة تكون فيها الحصة الأكبر للدول التي كان من المعروف أنها المنتصرة في تلك الحرب.

وهذا ينطبق على اندلاع الحرب العالمية الثانية، فألمانيا بهتلر ومن دونه كانت صاعدة تغض الخطى للتربع في موقع القوة الأكبر والأهم، وكان المنافسون، بريطانيا والاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، يراقبون صعودها عن كثب، ولذلك فإنه لم يكن هناك بد من أن تندلع هذه الحرب التي انتهت بتدمير هذه الدولة وتقسيمها وإعادة تقاسم النفوذ والمصالح في أوروبا كلها وفي العالم بأسره بين المنتصرين، وفي مقدمتهم أميركا، التي أصبح حضورها كاسحا في الكرة الأرضية، والتي كانت قد أصبحت القطب الأول، تأتي بعدها الدولة السوفياتية التي تزعمت الكتلة الاشتراكية.

ولذلك فإنه في حكم المؤكد أن حادثة إحراق محمد بوعزيزي لنفسه كان من الممكن أن تمر من دون أن تترتب عليها كل هذه التحولات، التي شهدتها تونس، والتي انتقلت عدواها إلى المنطقة العربية كلها، لو أن الأوضاع التونسية لم تكن محتقنة أساسا، ولو أن لحظة رحيل زين العابدين بن علي قد حانت بعد استشراء الفساد واتساع مساحات التسلط وبعد أن وصل الاستقطاب داخل الدولة حتى حدود لو أن «البورقيبيين» تأخروا في التقاط اللحظة التاريخية التي ترتبت على جريمة قرية سيدي بوزيد لكان غيرهم ضرب ضربته واقتطف تلك اللحظة التاريخية التي غدت مهيأة وملائمة. وأيضا فإن ما جرى في مصر، أم الدنيا، ما كان من الممكن أن يصل إلى ما وصل إليه ولكان بالإمكان استيعاب ثورة الشباب وإخماد المظاهرات التي انفجرت في القاهرة وفي الإسكندرية وفي الإسماعيلية، والتي أصبح عنوانها «ميدان التحرير» لو أن الأوضاع لم تكن في ذروة التأزم ولو أن المحيطين بالرئيس مبارك لم يوصلوه إلى لحظة الانتحار بدفعه دفعا إلى التمسك بأن يرثه ابنه في موقع الرئاسة وبمنعه من أن يرى الحقيقة في الوقت المناسب ويدرك أن إصراره على هذا الخيار ستكون عواقبه هذه العواقب الوخيمة.

لقد شهدت مصر في عهد جمال عبد الناصر وفي عهد السادات تململات شبابية اقتربت من لحظة الانفجار، لكنها لم تصل إلى هذه اللحظة ولم تتحول إلى ثورة كهذه الثورة الأخيرة، لأن الأوضاع لم تصل إلى حالة التأزم التي وصلت إليها في سنوات حكم الرئيس مبارك الأخيرة، ولأن الظروف الدولية والإقليمية كانت غير هذه الظروف، وكانت هناك أولويات وطنية، في مقدمتها تحرير سيناء والتصدي للعدوان الإسرائيلي، جعلت الشعب المصري يكظم غيظه، ويتحمل وجع كل التشوهات وكل التجاوزات من أجل هذه القضية الوطنية الكبرى.

ثم بالنسبة إلى ليبيا، فإن ما يمكن الجزم به هو أنه حتى لو أن مذبحة سجن بنغازي لم تقع، وحتى لو أن العقيد القذافي انتقل بخيمته إلى هذه المدينة، ولو أنه جاء بكتائبه وبراياته الخضر إلى هذا الشرق المنسي، فإن الانفجار كان سيحصل لا محالة، إذ إن الأوضاع في هذه «الجماهيرية»، التي تقاد بفوضوية لم يعرفها التاريخ، قد أصبحت لا تطاق، وأن الشعب الليبي لم يعد يحتمل تصرفات قائده بعد كل هذه الأعوام الطويلة.

إنه لا يمكن التشكيك في طهارة ووطنية ثورة الشباب في مصر وفي تونس وفي ليبيا وفي اليمن، ثم إنه لا يمكن إنكار أن أوضاع دول هذه المنطقة كلها باتت تستدعي الإصلاح والتغيير السلميين، تفاديا للعنف والقوة، لكن ومع ذلك، فإنه لا بد من الاتفاق على أن عاملا خارجيا، هو العامل الأميركي على وجه التحديد، قد استشعر هذه الحالة مسبقا، وبادر إلى ركوب هذه الموجة، ليحقق ما كان الرئيس السابق جورج بوش (الابن) قد أراده عندما رفع شعار «الفوضى الخلاقة».

كان الأميركيون من أجل إيصال هذه «الفوضى الخلاقة» إلى معظم الدول العربية قد بادروا إلى إنشاء بؤر وخلايا تحت أسماء متعددة، بعضها بعناوين إنسانية وبعضها الآخر تحت لافتات مراكز الدراسات، هذا علاوة على فتح قنوات اتصال مع بعض التشكيلات الحزبية، وبخاصة ذات الطابع الإسلامي، لتشجيعها على رفع رايات «الإصلاح والتغيير»، وبخاصة في البلدان ذات الملامح الديمقراطية.

ثم إلى جانب خلق مثل هذه البؤر، فإن الأميركيين قد أولوا وسائل الإعلام «التهويشية» والتحريضية عناية فائقة، إن في العلن وإن في السر، وهنا فإن ما يمكن كشف النقاب عنه ونحن بصدد الحديث عن هذه المسألة، هو أن وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون كانت قد لجأت إلى تعنيف وتهديد رموز في السلطة الوطنية الفلسطينية لأنهم شنوا حملة مضادة على إحدى الفضائيات بعد قصة تسرب وثائق المفاوضات مع الإسرائيليين عبر «ويكيليكس» إلى هذه الفضائية.

وفي النهاية، فإن المقصود هو أن الأميركيين قد بادروا، وبسرعة، إلى ركوب موجة ثورة الشباب، التي هي ثورة شريفة ونظيفة وذات أهداف وطنية وصادقة لا يمكن التشكيك فيها، والدليل هو أن الرئيس أوباما دأب على الظهور يوميا وأكثر من مرة في الأيام القليلة التي سبقت تنحي الرئيس مبارك ليدلي بتصريحات كانت تشكل تدخلا سافرا في شؤون دولة مستقلة وذات سيادة وعريقة في تقاليدها الوطنية ومعروفة برفضها لأي تدخل خارجي في قضاياها الداخلية، بينما بالنسبة لما يجري في ليبيا بقي مترددا انتظارا لمن سيكون النصر في هذه المواجهة التي تحولت إلى مواجهة عسكرية غير معروف حتى الآن من سيكون الرابح فيها، وبينما بالنسبة لليمن قد انحاز ولا يزال ينحاز بكل وضوح ضد التحركات الشعبية المعارضة، وبالطبع فإن السبب في الحالتين هو «النفط» وليس غير النفط!!