السعوديون ورياح التغيير!

TT

أتيحت لي في الثالث من فبراير (شباط) الماضي فرصة حضور ندوة عن التحولات في العالم العربي، في جامعة هارفارد (كلية جون كيندي)، تلبية لدعوة من رابطة الدارسين في الكلية. تحدثت الندوة عن الثورات الشعبية التي حدثت في مصر وتونس، والثورات التي ربما تندلع في دول عربية أخرى. كانت الندوة ساخنة جدا، خففت علي من برودة مدينة كامبريدج التي وصلت حراراتها عشر درجات تحت الصفر. وشهدت الندوة تفاعلا لافتا من أساتذة هارفارد الذين أظهروا الوجه المشرق للجامعات الأميركية العريقة، القائم على المنهجية العلمية الصارمة، والبعيد كل البعد عن التنميط المسيطر على الإعلام والسياسة.

كان من بين المتحدثين البروفسور روجر أون أستاذ التاريخ بالجامعة، الذي يرى أن من أسباب تلك الثورات، التحولات الثقافية التي طرأت على الشعوب العربية، خاصة الشباب منهم، وابتعاد الحكومات عن هموم الشباب وتطلعاتهم نتيجة العزلة التي تفرضها بعض الحكومات على نفسها. صاحب ذلك سوء في إدارة الدولة سياسيا واقتصاديا في الداخل والخارج. يأتي على رأس ذلك عدم نزاهة الانتخابات، والتلاعب بالدستور وفق الرغبات الشخصية.

لقد ساندت تلك الشعوب رؤساءها بداية حكمهم، على أمل أن يضمنوا لهم العيش الكريم، ويحققوا العدالة الاجتماعية. ومع طول الزمن، نفد صبر تلك الشعوب، وهي ترى آمالها تتبدد مع الأيام. وفي المقابل، نجد الدول الملكية في المنطقة على النقيض من ذلك، فهي الأقرب إلى شعوبها، ومن ثم هي الأرجى في تحقيق آمال الشعوب ومطالبها.

وعلق البروفسور رامي خوري، أستاذ العلوم السياسية الزائر، بأن ما حدث في تونس ومصر ليس مفاجئا لمن كان يتابع الحراك السياسي والاجتماعي في المنطقة، حيث إن هناك أسبابا مزمنة، أسهمت في إشعال الثورة، منها الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، واحتلال أميركا لأفغانستان ثم العراق، والنفاق السياسي الغربي تجاه القضايا العربية والإسلامية، والانحياز التام للصف الإسرائيلي، إضافة إلى الضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها شعوب المنطقة. أدت هذه الأسباب مجتمعة إلى إحباط شديد تجاه الأنظمة الحاكمة.

وأيد القول إن دول الخليج النفطية أقرب إلى شعوبها وأكثر استجابة لمطالبهم، لذلك يرى أن احتمال الثورة فيها أقل من غيرها، مشيرا إلى دراسة أجرتها مؤسسة «جاليوب» على خمسين ألفا من الشباب العربي، أعمارهم بين 15 و29 عاما، بينت الدراسة أن 30% من الشباب العربي الجامعي، غير الخليجي، يغادر بلاده بحثا عن عمل، منهم 43% من المغرب، و40% من تونس، وأبدى 50% منهم عدم الثقة بالنظام القضائي في بلدانهم، ومثلهم أبدوا عدم الثقة بحكوماتهم. وشهدت الدراسة ملحوظة مهمة للغاية، وهي أن ثلثي العينة وهم الأغلبية محل الدراسة لا يعتقدون أهمية الانتخابات في تحقيق الرضا عن الأنظمة الحاكمة، وهذا يعني أن قرابة الثلث فقط هي التي تؤمن بذلك.

وقال البروفسور خوري إن تعاطي الإعلام الغربي، خاصة الأميركي، مع مطالب التغيير في العالم العربي لم يكن واقعيا ولا عادلا، فالإعلام يضغط على هذه الشعوب لإحداث تحولات جذرية وفورية، في حين أن مثل هذه التحولات في أوروبا وأميركا، تحققت خلال مئات السنين.

واتفق الجميع على أن انعزال القيادة عن شعبها، واستغلال الحلقة الأضيق حول الحاكم نفوذها في تحقيق مكاسب شخصية، أسهم في انتشار الفساد، وتسبب في انهيار الأنظمة، وليس منطقيا أن نجعل مواقع التواصل الاجتماعي كـ«تويتر» و«فيس بوك» السبب الرئيسي في هذه الثورة، فالعدد الهائل الذي خرج إلى الشوارع لا يجيد التعامل مع هذه المواقع، ونسبة الشباب المستخدمين لها قليلة جدا.

وبعد الندوة، التقيت بعض المهتمين بالشأن السعودي، جلهم من طلاب الدراسات العليا بقسم العلوم السياسية من جامعتي هارفارد و«إم آي تي»، الذين لم تشبع الندوة فضولهم عن السعودية، ووجدوها فرصة للنقاش مع سعودي جاء إليهم بنفسه. كان جل تركيزهم على مدى توافر أسباب الثورات الشعبية في السعودية على وجه الخصوص، وهل السعودية بمنأى عن رياح التغيير؟! فقلت لهم إن التغيير أمر لا بد منه في أي بلد، وهو طبيعة بشرية في الأساس، فكيف والبلد مليئة بالجامعات والمثقفين؟! كل البشر يمارسون التغيير في حياتهم يوميا، سواء أكانوا أفرادا أم مؤسسات، والسعودية ليست استثناء، بل إن التغيير يعد سمة من سمات الدولة الحيوية والمتجددة، والسعودية هي تلك الدولة، وقيادتها منذ توحيدها على يد الملك عبد العزيز إلى وقتنا الحاضر، كانت ولا تزال، تمارس التغيير، ساعة بساعة.

نحن مع رياح التغيير اللواقح، التي تجلب الخير والنماء للبلد، ولسنا مع رياح التغيير التي تنشر الزوابع والأتربة. وإذا كان التغيير هو انهيار ثوابت المجتمع ومفاهيمه الدينية والاجتماعية، فإن التغيير في هذه الحال، يتناقض مع معتقداتنا الدينية وأعرافنا الاجتماعية، وسيكون الشعب السعودي هو الرافض، وليس الحكومة.

إن القيادة السعودية تؤمن إيمانا كاملا بأنها ليست ملائكية، ولا تحكم شعبا ملائكيا، وأن الأخطاء واردة من الجميع، والمشكلات حاصلة كحالة طبيعية. لدينا بطالة كما لدى الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغنية، ولدينا مشكلات في الإسكان، وفي أولويات التنمية. والسؤال الأهم هو: ماذا عملت الدولة لمواجهة صعوبات التنمية؟! صحيح أن التحولات الاقتصادية والاجتماعية السريعة قد فرضت صعوبات تنموية ظاهرة، ولكن الدولة في سباق مع الزمن لحلها، ولمواكبة التغيرات المستمرة. ومما يساعد الحكومة على تلمس الحلول لتلك المشكلات، هو قرب الحاكم من المحكوم. فالقيادات على اختلاف مستوياتها على صلة وثيقة بالمواطنين، سواء من خلال التمثيل الشعبي في مجالس الشورى والمناطق والبلدية، أو من خلال المجالس المفتوحة، ابتداء من مجلس الملك ونوابه، إلى أمراء المناطق والوزراء، فالاتصال بين المسؤول والمواطن اتصال مباشر لا عوائق أمامه.

في السعودية تطبق أحكام الشريعة الإسلامية، وأدرك أن بعض وسائل الإعلام الغربية جعلت تطبيق الشريعة مرتبطا بأحكام الرجم والقطع ونحوها، وتهمش كل ما يمكن أن يكشف عن محاسن الشريعة، التي هي الضامن لحقوق الإنسان وكرامته.

ومن ثم، فإن الثقة بالقضاء في السعودية نابعة من إيمان السعوديين بعدالة الشريعة الإسلامية، كونها أحكاما إلهية، وليست من صنع البشر، فهي لا تفرق بين حاكم ومحكوم، الجميع سواسية أمام القضاء. التاريخ القديم والحديث مليء بالمواقف المبرهنة على ذلك، منها أن الملك عبد العزيز مؤسس الدولة، مثل أمام القضاء وهو الملك، في دعوى أقامها عليه أحد المواطنين، بسبب خلاف على عقار، ولم يشفع لعبد العزيز كونه الملك أن يحكم القاضي له، بل حكم لخصمه، وقبل بذلك الملك ولم يعترض.

وهجرة السعوديين بسبب الأحوال السياسية والاقتصادية أقرب إلى الصفر، بل إن الدولة أرسلت 130 ألف طالب للدراسة في الخارج على نفقتها، منهم 35 ألفا في أميركا. هذا النوع من الهجرة، إن صحت التسمية، مكلف جدا على الدولة، ولكن هذه هي السعودية! تقوم العلاقة فيها بين الحاكم والمحكوم على الثقة والرضا، والعطاء المتكامل.

رضا المواطن هو المقياس الحقيقي لنجاح العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أيا كانت الوسيلة التي تدار بها هذه العلاقة. وليس شرطا بالممارسة الديمقراطية على النموذج الغربي، فتحقيق الرضا من خلال البرامج التنموية الفاعلة ونشر العدل وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية وتعزيز العلاقة بين الحاكم والمحكوم، هو الهدف الرئيس لدينا نحن السعوديين للتعامل مع رياح التغيير تلك.