الحزب السياسي في سيرورة الإصلاح بالمغرب

TT

أستسمح القارئ الكريم في استعادة جملة كتبتها الأسبوع الماضي في مقالتي «حركة 20 فبراير» (الحركة الشبابية الاجتماعية في المغرب): «إن الحركة ستصيب أهدافا بعيدة في تحقيق ما حملته من شعارات تدعو إلى إصلاح سياسي عميق يعمل على ترسيخ الملكية الدستورية على النحو الذي يرتضيه المغاربة، (لا على النحو الذي يسعى إلى استيراد نموذج أجنبي)». لم يكن ما كتبته (قبل إذاعة الملك محمد السادس خطابه مساء 9 مارس/ آذار) نوعا من الرجم بالغيب، وليس بعضا من الخبر الذي ربما أكون قد علمته سرا.. لا، وليس صدى لإشاعات تروج لترقب إصلاح جذري يعلن عنه ملك المغرب. لم يكن الأمر أيا من ذلك، بدلالة ما سبقه من مبادرات من الملك، أخصها اثنتان: الإعلان عن تشكيلة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي (وقد كان هيئة فارغة أقرها الدستور المغربي الحالي)، وإقرار نقل المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان إلى مستوى أعلى (مجلس وطني ذو صلاحيات أوسع). وكان ديوان الملك قبل ذلك قد توصل بنتائج لجنة وطنية موسعة امتدت أشغالها قرابة العام إلى إعداد مشروع قانون الجهوية الموسعة (صلاحيات واسعة في التدبير الذاتي لجهات المغرب يعيد ترتيب العلاقة مع السلطة المركزية في العاصمة).

القصد من هذا كله هو القول إن خطاب محمد السادس يوم 9 مارس، الذي هناك إجماع من المغاربة يكاد يكون تاما على نعته بالخطاب التاريخي (مثلما كانت ردود الفعل تجاهه إيجابية تماما من قبل مختلف دول أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، فضلا عن جامعة الدول العربية ومنتديات أخرى؛ في تونس على سبيل المثال)، أتى في الواقع في سيرورة طبيعية لا شك أن خروج شباب 20 فبراير (شباط) إلى الشارع والحركة الشبابية العارمة التي يشهدها العالم العربي قد عملت على تسريع إيقاعه، بل ولربما تكون حسمت بعض الانتظار أو التردد. وليس الهدف عندي، في هدا المقال، الوقوف عند الخطاب والتنبيه على مظاهر الإرادة في إحداث إصلاح دستوري - يكاد يكون شاملا - يمس تنظيم السلطة والتسيير السياسي والإداري في المغرب، ولكني أود الحديث عن إحدى النتائج البعيدة التي تترتب عليه. قد يلزم، تمهيدا لذلك، أن أقول، بالاختصار، إن خطاب ملك المغرب شمل عناصر ثلاثة محورية تمس كلها العمق وتصيب الخدر؛ الأول فيها هو جملة المبادئ التي أقرها وتحدث عن وجوب «دسترتها» (كما نقول في المغرب)، بمعنى إقرارها فصولا في الدستور المغربي، وهذه تتصل بتفعيل الالتزام بمبادئ حقوق الإنسان، والحريات العامة، واستقلال القضاء، واعتبار الأمازيغية بعضا من الهوية المغربية. والثاني يتصل بصلاحيات الجهة أو الجهوية الموسعة. والثالث هو ما أريد أن أقول فيه اليوم برأي، والمتعلق بتفعيل وتقوية دور الحزب السياسي في المغرب.

سبق مني، من خلال هذا المنبر، الحديث مرات متعددة عن الحزب السياسي في المغرب وضعفه وإمكانات مجاوزة حال الضعف، وكذا استعادة المواطنين الثقة فيه (وهذا عمق المشكل في قضية العزوف عن العمل السياسي والمشاركة في المغرب). والمشروع الذي تنكب اللجنة المكلفة على إعداده (مع تعليمات بالقيام باستشارات واسعة للأحزاب السياسية والمنظمات الحقوقية والفعاليات المختلفة) سيسعى، بقوة الأشياء، إلى التشريع العلي لدور الحزب السياسي ولقانون الأحزاب وتنظيمها في المغرب ما دام هنالك التزام بإسناد الوزارة الأولى (رئاسة الحكومة) إلى الحزب الذي سيحصل على الأغلبية في الانتخابات التشريعية؛ هذا من جهة أولى، وما دام هنالك، من جهة ثانية، التزام بتقوية دور الوزير الأول ومؤسسة مجلس الحكومة (دسترة مؤسسة مجلس الحكومة وتوضيح اختصاصاته) وما دام هناك، من جهة ثالثة وأخيرة، إقرار بوجوب خروج الحكومة من جوف صناديق الانتخابات والحصول على ثقة مجلس النواب. وليس يستدعي كل هذا أن يكون المرء خبيرا في القانون الدستوري ليدرك الترجمة العملية لما سيصبح عليه الدستور المغربي الذي سيعرض على الاستفتاء الشعبي بعد أشهر قليلة من تطويق الأحزاب السياسية في المغرب بالمهام الطبيعية والمنطقية التي تستوجبها الملكيات الدستورية الفعلية؛ بل تستدعيها الممارسة السياسية السليمة التي هي عنوان الديمقراطية والحروف التي تكتب بها. ذلك أنه لا حياة سياسية طبيعية وسليمة من الآفات، في غياب أحزاب سياسية تنظم في برامج محددة واضحة ويكون السعي إلى امتلاك السلطة التنفيذية، من خلال انتخابات نزيهة، الترجمة العملية لها. ثم إن الوجه الآخر للعملة في الحياة السياسية السليمة، تلك التي تكون تعبيرا فعليا عن الممارسة الديمقراطية الحقة، هو وجود معارضة سياسية يجمع بينها برنامج بديل (أو تجمع لبرامج تقبل الانصهار في برنامج بديل).

قد يبدو هذا الكلام، متى أخذ في ظاهره، بسيطا جدا ومنطقيا تماما، والحق أنه في مستوى النظر كذلك (وهل الديمقراطيات الكبرى في العالم غير ذلك). ولكن هذا القول، البسيط والواضح في ما أعتقد، يثير جملة إشكالات ويحمل على طرح أسئلة عديدة تتصل بالحزب السياسي وبالممارسة الحزبية في المغرب. لا شك أن المواطن المغربي ذا المشاركة المتدنية جدا في الانتخابات بالمغرب، في حاجة إلى رسائل قوية وإلى «أمارات» دالة تمهيدا لاستعادة الثقة في الحزب السياسي وفي الممارسة الحزبية في المغرب إجمالا. والرأي عندي (وأسمح لنفسي أن أدعي أن ذاك ما يقوله جهرا ويهمس به المغاربة عموما) هو أن الحزب السياسي في المغرب بحاجة إلى القيام بعدد من الإجراءات، ربما كان أخصها وأوجبها للمبادرة: تخليق الحياة الداخلية، وذلك بالأخذ بسبيل ممارسة ديمقراطية داخلية تطهر الحزب السياسي من شوائب العلاقات العائلية والزبونية. إعادة النظر (بواسطة مؤتمرات عاجلة) في قيادات تتأرجح بين الأزلية من جانب وبين بلوغ سن الشيخوخة من جانب آخر. العودة بالحزب السياسي إلى الوظيفة الأساسية للعمل السياسي، بما به يكون قوامه وتكون ماهيته، وهي وظيفة التكوين السياسي منذ الشباب الأول وإعداد الأطر (الكوادر) القادرة على تحمل المسؤوليات والمشاركة في الحياة العامة للوطن.

يقبل المغرب على عمل إصلاحي سياسي عميق، أحد سبله وأدوات العمل الضرورية فيه، هو وجود الأحزاب السياسية السليمة، والقوية، والقادرة على صياغة برامج واضحة ودقيقة، والقادرة على التنافس مع برامج سياسية أخرى نقيضة.

في كلمة واحدة يجب أن نترجم القول المأثور: «لا ديمقراطية من دون ديمقراطيين»، بقولنا: «لا حياة سياسية سليمة ولا إصلاح سياسيا من دون أحزاب سياسية صالحة.. سليمة وقوية».