استفتاء مصر.. ما أقدرش أقول «آه» وما أقدرش أقول «لأ»

TT

لا أعتقد أن الموسيقار الراحل فريد الأطرش كان يتخيل أن أغنيته الرومانسية «ما أقدرش أقول آه»، التي صاغها ببراعة الشاعر الغنائي مأمون الشناوي، ليزين بها فيلم «تعالى سَلِّم» الذي أنتج عام 1951، سوف تصبح لسان حال المواطن المصري عام 2011 وذلك كلما اقترب الزمن من يوم الاستفتاء الموعود، غدا السبت 19 مارس (آذار).

يعرف المصريون عن «امتحان السبت» أن أمامهم خيارين ظاهرين هما (لا) أو (نعم) لحزمة التعديلات الدستورية، التي أعدتها لجنة قانونية راقية استعان بها المجلس العسكري الحاكم في مصر، لكن باطن الأمر أعمق وأكثر إثارة وخطورة. إن مصر في هذا «السبت» تدخل امتحانا فاصلا في تاريخها، فهي إما أن تقول للعالم إن ما حدث في يناير (كانون الثاني) الماضي كان ثورة، أو أنها كانت نصف ثورة توقفت عند حد الانتفاضة الشعبية.

ولكي نزيد توضيحا، من سيقول (لا) فهو يكمل جملة مفيدة تقول: لا.. لأن ثورة يناير 2011 هي ثورة شعبية كاملة، خلقت شرعية جديدة تقضي على ما قبلها من هياكل للدولة المصرية، وترفض الشكل السياسي القديم وتدعو لإعادة بنائه بالكامل، ولا سبيل لذلك إلا بدستور جديد، ولهذا نرى أن تبقى مصر في فترة انتقالية تنقضي وفق اختيارين محددين، إما حكم عسكري مؤقت أو تحت قيادة مجلس رئاسي شبه مدني يختاره العسكريون، والاختياران كلاهما في رأيي وجهان لعملة واحدة، فكلاهما ضمنيا يضع مصر تحت الحكم العسكري، وقتيا!

أما من سيقول (نعم) فسوف يكمل جملة مناقضة تماما تقول: نعم.. إنها كانت انتفاضة شبابية وشعبية رائعة حققت تغييرا سياسيا جوهريا بخروج الرئيس مبارك من الحكم وإقصاء سيناريو التوريث المذل، تدعمه هذه التعديلات الدستورية المهمة، ليمثل ذلك إصلاحا سياسيا كبيرا يتحقق في إطار الحفاظ على هيكل الدولة المصرية الممتد من ثورة يوليو 1952 حتى اليوم.

لهذا تكمن عبقرية هذا الاستفتاء، في حال اكتماله ونجاحه ونزاهته، فهو يعطي للشعب المصري الفرصة في أن يقيّم التجربة التي مر بها خلال الأسابيع الماضية، وأن يضع لها الاسم المناسب، وأن يحدد ذلك وفي إطار ديمقراطي حقيقي شكل مستقبل هذه التجربة ومدى ارتباطها بما فات.

ولأن السؤال شديد الصعوبة، واستنطاق إجابة واضحة عليه أصبح شاغل كل المصريين، فقد نشطت كل القوى السياسية المصرية والشعبية لحشد الجماهير وراء تأييد أو رفض هذه التعديلات، مما أحدث ضجة وصخبا مدويا غطى على كل شيء يجري في بر مصر، وحدث ما يشبه «الزيطة» التي تصاحب الموالد الشعبية في قرى مصر وريفها، وانقسم الشارع إلى نصفين.. حزب (لا) يتقدمه أغلب المرشحين المحتملين لمنصب رئيس الجمهورية ومنهم محمد البرادعي وعمرو موسى، ومعهم ائتلاف شباب ثورة يناير وبعض ما كان يسمى في عهد مبارك بأحزاب المعارضة، ومنها الوفد والتجمع والجبهة، وعلى الجانب الآخر اجتمع الضدان؛ الإخوان والحزب الوطني الحاكم «سابقا»، في حزب (نعم)، ووقف أنصار الفريقين يتابعون معركة الاستفتاء المشتعلة في ملاعب الإعلام المصري المختلفة، سواء على برامج التوك شو المسائية أو من خلال صحف الصباح الصادرة في القاهرة.

ولعل أهم ما ستخبرنا به هذه المعركة المبكرة والمهمة، هو حقيقة القوى التي تسيطر على الشارع المصري، فلو نجح حزب (نعم) بقيادة الإخوان وخلفهم أغلب القوى الإسلامية المختلفة ومعهم الحزب الوطني وخلفه رجال أعماله وقوى تقليدية سيطرت في السابق على كل المواقع القيادية في الدولة، فهذا يعني ببساطة استمرار هيمنة هذه القوى التقليدية على حكم مصر.

أما نجاح حزب (لا) فهذا يعني ميلادا جديدا لثورة يناير، يعطيها شرعية جديدة عن طريق صناديق الاقتراع بعد أن حصلت من قبل على شرعية الشارع، كما أنه يعطي رسائل قوية للعالم، وهي أن جيلا جديدا يتجه ليأخذ طريقه لحكم مصر، وأن القوى التقليدية الحاكمة للشارع المصري قد انتهى زمانها، وأن الحديث عن قدرات الإخوان المسلمين الخارقة وشعبيتهم الجارفة أمر لا محل له من الإعراب.

مشكلة «مولد الاستفتاء» وما أحدثه من «زيطة»، هي أنها جعلتنا لا ننتبه إلى أحداث مهمة حدثت في خلفيات المشهد السياسي المصري، كانت تستحق أن نتوقف أمامها بالتحليل والتدقيق، لعل أبرزها هو مولد آخر لاستعراض العضلات أقامته القوى الإسلامية في مصر، بدءا باحتفالية خروج نائب مرشد الإخوان المسلمين رجل الأعمال خيرت الشاطر من محبسه، ولم تنته بمهرجان إطلاق سراح قيادي الجهاد عبود الزمر الشريك في عملية اغتيال الرئيس المصري السادات عام 1981، وبينهما دشن الإسلاميون في مصر أربعة أحزاب تمثل أجنحة وآيديولوجيات مختلفة في إطار عباءة الحركة الإسلامية التي أصبحت «فضفاضة» لأقصى مدى، وهي في طريقها للظهور العلني الأول في تاريخها منذ أن تم حل جماعة الإخوان المسلمين في نهاية أربعينات القرن الماضي.

فمن أقصى اليمين أعلنت الجماعة الإسلامية عن مشروعها بإطلاق حزب جديد، دعمه بالطبع خروج عبود وطارق الزمر، وقبله بأيام أعلن الإخوان تأسيس حزبهم الذي أطلقوا عليه اسم «الحرية والعدالة»، وقبل ذلك خرج إلى الحياة رسميا «حزب الوسط» الذي أسسه مجموعة من المنشقين عن الإخوان في منتصف التسعينات، وأخيرا أعلن الداعية الإسلامي عمرو خالد عن نيته في تأسيس حزب جديد، يضم المجموعات الضخمة من الشباب الذين شاركوه في السنوات الأخيرة أعماله الاجتماعية التي أطلق آخرها قبل أيام لمحو الأمية.

هذا الزخم الإسلامي الذي سبق «سبت الاستفتاء» وفي خلفية معركته، ربما أثار قلق الإدارة الأميركية، التي أسرعت بإرسال وزيرة خارجيتها هيلاري كلينتون لاستطلاع الأمر على أرض الواقع في زيارة مهمة للقاهرة يوم الثلاثاء الماضي، أعقبتها زيارة ميدانية لميدان التحرير لتفقد مسرح الثورة الذي حظي بشهرة عالمية كبيرة، وربما فهم البعض أن هذه الزيارة تمثل دعما لحزب (لا) لما يمثله من اتجاه ليبرالي يدفع بالمجتمع بعيدا عن أسلمته التي ينجرف إليها بقوة لا واعية.

لهذه الأسباب جميعها أمست أغنية فريد الأطرش معبرة بصدق عن حيرة المصري التي دفعته لأن يطلق نكاته الساخرة في كل مكان، ووصلتني إحداها في رسالة على الجوال تقول: «الله يرحم أيامك يا مبارك.. عمرك ما شيلتنا همّ إن إحنا نقول (نعم أو لا).. كان أب بمعنى الكلمة».

إن الشعب المصري يحبو بسعادة طفل في طريق الديمقراطية الصعب، يحاول في تجربته الأولى في «سبت الاستفتاء» أن يقف على قدميه بثقة وينطلق إلى فضاء الحرية بعد سنوات الصمت الرهيب، ليدرك أن مشكلة الحرية دائما هي... الاختيار.