لأجل قراءة جديدة.. في علاقة أميركا بالعالم الإسلامي

TT

لماذا رفض شباب مصر لقاء هيلاري كلينتون؟

على الرغم من براعتهم في فنون «العلاقات العامة»، وإغراق العالم بإنتاجهم السينمائي الهائل، وهو إنتاج تحرى تجميل صورتهم - في الغالب -.. على الرغم من ذاك كله، فإن صورة أميركا ظلت «شائهة» في نظر الكثيرين في هذا العالم.

لماذا؟

لأن تحسين الصورة يكون بـ«الفعل الجميل»، لا بمجرد القول المزركش.. ويستحيل أن تتحسن الصورة إذا انقلبت أو انتكست هذه المعادلة فـ«كلام جميل» + «فعل قبيح» = مزيدا من دمامة الصورة، ذلك أن الفعل البشري أقوى تأثيرا من الكلام البشري بلا نزاع.. وتزداد الصورة قبحا بالتضاد أو التناقض الحاد بين القول والفعل. ومن هنا جاء تحذير المؤمنين من هذا التناقض - بحسبانه كبيرة من الكبائر - : «يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون. كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون».

بالنسبة لعلاقة أميركا بالمسلمين. كان العالم الإسلامي - بادئ ذي بدء - يحسن الظن بأميركا، لأسباب عديدة من بينها: أن الأميركيين كانوا من بواكير الشعوب التي ناضلت ضد الاستعمار، وحققت استقلالها عنه، وهو استقلال وثق في «وثيقة الاستقلال» الأميركية التي تحكي قصة بشرية رائعة يهش لها كل إنسان محب للحرية والكرامة.. ومن تلك الأسباب أيضا: مقارنة العالم الإسلامي بين أوروبا وأميركا، فأوروبا تقبّح وجهها لأنها كانت تستعمر بلدان المسلمين. ففرنسا وبريطانيا وإيطاليا وهولندا.. و.. و.. كانت تحتل أوطان المسلمين بما عرف عن الاحتلال والاستعمار من استعلاء على الشعوب، وإذلال لكرامتها، ونهب لخيراتها، واضطهاد أحرارها. على حين أن أميركا في تلك المراحل لم تستعمر بلدا إسلاميا ما.

بعد الحرب العالمية الثانية، تبدلت موازين القوى الدولية، إذ أفلت شمس الإمبراطوريتين: البريطانية والفرنسية، وبزغت شمس دولتين أخريين كبيرتين هما: الاتحاد السوفياتي.. والولايات المتحدة الأميركية.

بعد هذه الحرب، تأجج العالم الإسلامي بحركات النّضال ضد الاستعمار. وكانت أميركا تتعاطف مع هذه الحركات، ربما بدافع إرثها في النضال ضد الاستعمار، وربما لأنها تريد أن ترث الاستعمار الغربي: على الطريقة الأميركية.. بيد أن «فعلا» أميركيا قبيحا جدا قبح هذه الصورة الحسنة. فقد سارعت أميركا إلى المشاركة العظمى في صناعة «جريمة القرن العشرين»، أي جريمة قيام إسرائيل على أنقاض الشعب الفلسطيني وأرضه، فخانت بذلك قيمها ومبادئها في الحق والعدل. وخانت - كذلك - تاريخها النضالي ضد الاحتلال من حيث تأييدها لاحتلال الصهيونية لفلسطين.. يقول الكاتب الأميركي الوطني الشجاع بنيامين فريدمان: «كان ترومان نائبا للرئيس حين توفي روزفلت عام 1945.. وقد أتيحت لي فرص عدة لإطلاع الرئيس ترومان على بواطن أمور المسألة الفلسطينية، غير أن سياسته بالنسبة لهذه المسألة اقتصرت على اكتساب رضا يهود أميركا فقط. وقد نجح في ذلك أكثر مما كان يتمنى.. ففي منتصف ليل 14 مايو 1948 استدعى وزير خارجية أميركا جورج مارشال ليوقع على اعتراف الولايات المتحدة بدولة إسرائيل خلال الساعة الأولى من إعلانها. والواقع أن الرئيس ترومان نفسه كان متحمسا لدعم اليهود وتأييد دولتهم. وقد أسر لأصدقائه بأنه راغب في الاعتراف بالدولة اليهودية خلال الساعة الأولى من مولدها. وقد فعل ذلك بالضبط، إذ أعلن عن اعتراف بلاده بإسرائيل بعد إحدى عشرة دقيقة فقط من إعلان قيامها في تل أبيب. ولم يمض وقت طويل حتى رد اليهود الجميل إلى ترومان، ففاز في انتخابات عام 1948، على الرغم من أن جميع التقديرات الانتخابية أكدت أن حظوظه في الفوز هي بنسبة 5% فقط. لقد عاد إلى البيت الأبيض بفعل النفوذ اليهودي الخفي الطاغي».

لا شك أن تورط أميركا - بهذا الحجم المفزع - في صناعة «جريمة القرن العشرين» قد أهال أطنانا من الطين على وجه أميركا، وهو طين عجزت جميع الدعايات الأميركية عن إزالته.. ثم كانت الخطيئة الكبرى الثانية التي شوهت صورة أميركا في عيون الشعوب العربية الإسلامية.. هذه الخطيئة هي قيام أميركا بتدبير وتأييد الانقلابات العسكرية في العالم الإسلامي كله، وهي انقلابات لم يجن منها المسلمون سوى: كبت الحريات.. وتعطيل التنمية.. والهزائم العسكرية المتلاحقة.. وتسجيل أعلى معدلات للتخلف التعليمي والإداري والاجتماعي.. وملف الانقلابات العسكرية (المؤيّدة أميركيا) هو ملف ضخم قد يتطلب إفراد مقالات خاصة به في قابل الأيام.

وحين تلحظ أميركا: أن الانقلابات العسكرية التي صنعتها أصبحت مكروهة وعاجزة، فإنها تتخلى عنها بسرعة الضوء.. ومن الوقائع السياسية مثلا: أن أميركا هذه كانت وراء انقلاب «سوهارتو» في إندونيسيا. وقد دعمت هذا الجنرال بكل شيء عبر ثلاثين سنة.. ثم عندما ماجت شوارع إندونيسيا بموجة من التذمر ضده بسبب أحوال معيشية خانقة، سارعت أميركا إلى التخلي عنه. وأنشدت فيه قصيدة «هجاء» إذ وصفته بأنه ديكتاتور مستبد.. وحاكم فاسد، يدير نظاما فاسدا، وقامع للحريات إلى آخر القصيدة التي أعقبت قصيدة المدح الأولى إذ كان سوهارتو - في البداية - هو: الحاكم الذي وفر لإندونيسيا الاستقرار ومناخ التنمية والوحدة الوطنية!.

ثم حين تحركت شعوب عربية تطالب بحقوقها. وتحقق لها شيء من مطالبها، سارعت الولايات المتحدة إلى ركوب الموجة، وأخرجت من ملفها القديم: قيم الحرية والعدالة وحقوق الإنسان لتقول للشباب في العالم العربي: في ملفي مثل ما تطالبون به، فنحن وأنتم على طريق واحد، ومنهج مشترك!

لماذا تفعل ذلك؟

من الدوافع إلى هذا السلوك الانتهازي: أن الأميركان تأكدوا من أن جميع المساحيق والتدابير التي أرادوا تجميل صورتهم بها - لدى الرأي العالم العربي والإسلامي - قد فشلت 100%. ومن هنا قدروا: أن المسارعة إلى تأييد هذه الحركات الشعبية ستجمل صورتهم بطريقة عملية أفضل.

وهذه سذاجة سياسية:

أولا: لأن الشعوب أوعى من أن تخدع بهذه الأساليب.. وهذا هو الدليل على سذاجة الأميركان من جهة، وعلى منهج الشعوب من جهة أخرى.. فقد ذهبت هيلاري كلينتون إلى القاهرة لتتأكد من أن صورة أميركا قد تحسنت لدى الأجيال المصرية، بعد التأييد الأميركي لحراكهم، بيد أن الاختبار العملي بين أن الصورة لم تتحسن قط فقد طلبت هيلاري كلينتون مقابلة «شباب الثورة» والتحاور معهم.. وكانت المفاجأة المذهلة، إذ رفض الشباب لقاء وزيرة الخارجية الأميركية، معللا رفضه بسوء المواقف الأميركية في قضايا عديدة من بينها: التلكؤ الأميركي - في بداية الأمر - في تأييد انتفاضة شباب مصر.

ثانيا: أن تحسين الصورة الحقيقي إنما يكون بـ«الفعل العادل الناجز»، لا بمجرد اللعب على الظروف والحبال.. وفعل أميركا - حتى اليوم - لا يزال سيئا في مجمل القضايا والعلاقات العربية الإسلامية.. والفيتو الأميركي الأخير المؤيد للاستيطان الإسرائيلي: أبرز مثال قبيح على الفعل القبيح.

إن السياسة الأميركية تتخبط في كل شيء. ويبدو أن الإدارة الأميركية تولت مقاليد بلد أكبر منها، في عالم أكبر من البلد ذاته!