حكم القانون أهم من الدساتير

TT

يصوت الشعب المصري اليوم (19 مارس) في استفتاء عام على مواد معدلة في دستور النظام الذي تظاهر الملايين ضده بالنداء الشهير «الشعب يريد إسقاط النظام».

والتعديل من منظور التسهيل العملي، باختيار المواد التي اعتقد المجلس العسكري والحكومة المؤقتة أنها ما أثار استفزاز المصريين، خاصة من ناحية مشروع التوريث، أو من استمرار الرئيس في ترشيح نفسه لمدد غير محدودة. وبالتالي، حسب رأي المجلس والحكومة، فإن تعديلها يكون استجابة لمطالب ثورة اللوتس، رغم أني لا أذكر هتافات أو لافتات تطالب بإسقاط الدستور، وإنما بإسقاط النظام.

ولا نستطيع هنا إلا اتخاذ موقف محايد تماما تجاه الدستور ومواده في اليوم المصادف للاستفتاء، خاصة أن التيارات في مصر منقسمة بشأن التصويت. البعض يهتف بـ«نعم»، والبعض الآخر بـ«لا»، والبعض الثالث بمقاطعة الاستفتاء، والبعض الرابع يريد دستورا جديدا برمته، وعدد معتبر لن يذهب لمراكز الاقتراع أصلا، وهي ظاهرة ليست حكرا على مصر، بل إن قرابة ثلث البريطانيين لم يصوتوا في الانتخابات البرلمانية في مايو (أيار) الماضي.

ولأننا دائما ما طالبنا، ولا نزال نطالب، بسيادة القانون وبحكم القانون وهو أهم من التصويت والانتخابات، فلا ديمقراطية حقيقية إلا بحكم القانون، الذي يمنع التزوير، ويمنع الانتهاكات، ويحقق، نظريا، للتيارات السياسية والأحزاب فرصا متساوية في إقناع الناخب بفكرة، أو بتغيير رأيه.

منع الدعاية الانتخابية من الصحافة 24 أو 48 ساعة قبل التصويت أو الاستفتاء، ليس بدعة مصرية أو ابتكارا للمجلس العسكري الحاكم في مصر، وإنما كالعديد من بلدان العالم يحرم قانونها الانتخابي استخدام الصحافة بكافة أنواعها للترويج للدعاية الانتخابية من جانب أي مرشح أو من ينوب عنه أو أي حزب أو جماعة لمدة محددة تسبق فتح أبواب مراكز الاقتراع.

بل هناك بلدان تحرم على المرشحين ممارسة الدعاية حتى الفردية عن طريق ملصقات أو اجتماعات علنية أو حتى الطرق على الأبواب (وهي لا تزال سبيل الدعاية الانتخابية الأكثر تفضيلا وتأثيرا في بريطانيا) أو عبر مكالمات تليفونية يوم الاقتراع، والبعض طوال الساعات الـ24 السابقة لافتتاح مراكز التصويت.

بريطانيا، وهي أقدم الديمقراطيات، لا تطبق هذه اللوائح، وإنما تستمر فيها الدعاية الانتخابية حتى في يوم التصويت، وغالبا ما يستخدم البعض، حسب القدرة المادية، ما يعرف باستطلاع رأي المغادرين على باب اللجنة Exit poll. وذلك يتم عادة، ليس من جانب المرشحين، وإنما من جانب مؤسسات استطلاع الرأي لحساب الصحافة الكبيرة، وبالتحديد محطات الإذاعة والتلفزيون، لأنها تقدم الأخبار لحظية، ومؤخرا بدأت الصحف في اتباعها أيضا، لنشر النتائج على مواقعها على الإنترنت. ويقف العاملون في هذه المؤسسات على أبواب اللجان في بعض الدوائر المنتقاة بعناية، وهي ما تعرف بالدوائر الحرجة. فتقليدا هناك دوائر تصوت للعمال مهما كان شكل الحكومة، خاصة مناطق الطبقة العاملة. وهناك دوائر تصوت للمحافظين، غالبا في الريف ومناطق الإنتاج الزراعي. وهناك دوائر تتأرجح بين الحزبين حسب الأوضاع الاقتصادية وفرص العمل والخدمات. ولأن الاستعداد للانتخابات يبدأ قبل شهور واستطلاعات الرأي، الحقيقية لا المزيفة، تتم عدة مرات في اليوم أثناء الحملة الانتخابية، تكون هذه الدوائر الحرجة معروفة مقدما. تغير نتائج الدائرة، كأن تكون مع المحافظين وتذهب للأحرار، أو للعمال أو العكس، سيكون دليلا على اتجاه نتائج التصويت. ويسأل الباحثون كل شخص خرج من اللجنة لأي من الحزبين الكبيرين صوت (وإن كان ارتفاع نجم زعيم الأحرار نيقولاس كليغ عقب بدعة المناظرة الانتخابية المتلفزة بين زعماء الأحزاب لأول مرة في بريطانيا العام الماضي، قد عقد الحسابات بعض الشيء)، ومن مجموع هذه الدوائر الحرجة، تبث نشرات الأخبار نتائج استطلاع رأي الخروج. الفارق أن الأحزاب الكبيرة ذات الإمكانيات المادية الضخمة وأعداد أعضاء الحزب الكبيرة ومؤسساته، تمكن هذه الأحزاب من توجيه الدعاية والتركيز على الدوائر الحرجة، عن طريق وسائل خدمات فعالة. مثلا توفير وسائل مواصلات مريحة بشوفير، ينقل العجائز المسنين والمسنات، والمعوقين، أو غير القادر على التحرك، إلى مراكز التصويت، وغالبا تقديم شاي بعد الظهر الإنجليزي (وهو يشمل ساندويتشات وكيك وجاتوه)، أو إذا كانت الناخبة مثلا أماً وحيدة، فيوفر الحزب لها راعية أطفال بعد الظهر للإدلاء بصوتها والترفيه عن نفسها ساعة، وهذا يضمن بالطبع ارتفاع نسبة المصوتين بهدف التأثير على النتيجة النهائية.

وبديهي أن الأحزاب الصغيرة وذات الإمكانيات المحدودة لا تستطيع الاستفادة من نتائج استطلاعات الرأي الفورية ساعة بساعة في يوم الاقتراع، ولهذا مثلا تطالب هذه الأحزاب، ومنها «الأحرار» المشارك لـ«المحافظين» في ائتلاف الحكم، باتباع نظام منع الدعاية الانتخابية، بل ومنع استطلاعات الرأي يوم الاقتراع لما يرونه انحيازا لأصحاب الإمكانيات الضخمة - وبعضهم تبرعاته من أثرياء من خارج البلاد - ضد ذوي الإمكانيات الضعيفة. وبالمناسبة يصوت الشعب البريطاني في استفتاء على تعديل اللوائح الانتخابية يوم 5 مايو هذه العام، وهو من شروط «الأحرار» للموافقة على الدخول في ائتلاف مع «المحافظين»، حيث يرون في نظام الزائر تهميشا لهم ويردون نظام التمثيل النسبي بالقوائم طمعا في أصوات تضيع مع الخاسرين قد تعطيهم مقاعد إضافية، لكن توصلوا إلى حل وسط وهو نظام التمثيل النسبي على مستوى الدائرة وليس على مستوى المملكة.

الطريف أن شريكي التحالف يختلفان، فرئيس الوزراء وحزبه المحافظ وهما الأغلبية الكبيرة يريدان التصويت بـ«لا» في الاستفتاء، بينما يدعو نائب رئيس الوزراء، وحزبه (الأحرار) إلى التصويت بـ«نعم» في استفتاء الخميس 5 مايو.

و«الأحرار» يريد دستورا جديدا مكتوبا، لأنه لا يوجد دستور مكتوب في بريطانيا، ولكن تقاليد ولوائح انتخابية. وتقاليد بريطانيا البرلمانية أقوى من الدستور.

لكن أهم ما يميز الديمقراطيات العريقة في رأي العقلاء ليس الدساتير وإنما حكم القانون أولا، خاصة قوانين المساواة ومواثيق حقوق الإنسان، والحفاظ على مبدأ تكافؤ الفرص في الوصول إلى أي منصب، بلا استثناء واحد، بكفاءة العمل أو الموهبة أو الانتخاب، بداية بعضوية اتحاد عمالي أو مجلس الحي ووصولا لمنصب رئيس الدولة.

وحكم القانون أهم من الانتخاب والدساتير؛ لأن القانون العادل يضمن المساواة الكاملة بين المواطنين بصرف النظر عن الجنس والعرق والدين ومحل الميلاد والعقيدة السياسية.