البحرين بين الربط والفصل

TT

مؤسف أن تسقط ضحايا من النسيج الاجتماعي في البحرين، من المعارضة أو من قوى الأمن، فهو نسيج واحد، ومؤسف أيضا أن ضحية أخرى تسقط، مع من سقط في أتون الاختلاف الحاد، وهي غير ظاهرة للعيان، وأعني بها «الحقيقة». المطالب التي رفعتها المعارضة، وإن كانت مفاجئة في توقيتها، حيث كانت تلك المعارضة في مجملها ممثلة في مجلس منتخب لم يجف بعد حبر صناديق اقتراعه، وكان يمكن لها طرح مرئياتها هناك، فإن المفاجأة، يمكن تبريرها تجاوزا، على أنها محاولة استنساخ ما يحدث في أماكن أخرى من بلاد العرب، وحتمت الأحداث على المعارضة تكييف التوقيت، على أنه الأصح، لرفع سقف المطالب.. التي قوبلت في البداية من أهل الحكم بعرض حوار مشترك وشامل للوصول إلى حلول سياسية، مع ضبط النفس وتقديم مبادرات كإطلاق المسجونين قيد المحاكمة وتغير بعض الوزراء، إلا أن التصعيد والعناد كان سيد الموقف. اعتقد البعض أن ذلك التصعيد يمكن أن يحقق السقف العالي من المطالب، وتحول شيئا فشيئا من مطالب وطنية إلى مطالب فئوية، ثم انتقل إلى مطالب بها شبهة الانقلاب كليا على النظام القائم، وهو ما أوصل الأحداث إلى ما وصلت إليه.

الأزمة - أي أزمة - تحمل في طياتها فرص التحسن والشفاء، أو تحمل نذر كارثة تخسف بالمجتمع. هي الحالة التي تسبق الانهيار أو العافية، وغياب القيادة الشجاعة في المعارضة، أو سقوطها ضحية لمطالب عبثية تقود الجميع إلى الكارثة والانهيار، أما العافية فتحتاج إلى رجال شجعان. ولعل الأزمة في البحرين على شفا الكارثة، فمظهر المطالب بأنها فئوية أبعد عنها أولا التعاطف الشعبي لدى قطاع واسع من النسيج الاجتماعي والشريك في الوطن أو قل معظمه، ثم أربكت معها الاعتدال الشيعي، ممثلا في فريق الوفاق ومن حوله، الذي وقع ضحية المزايدة. فقد زايد عليه تطرف، ربما نطلق عليه تسمية «الشيعية السياسية»، التي نمت في البحرين وفي مناطق أخرى من عالمنا العربي في ساحة الصراع بين إدارة إيران الحالية والعالم، وهي التي تتجاوز الولاء المحلي والتشارك في رفع سقف المطالب الوطنية لجميع الأطياف محليا، كي تنقل ولاءها المطلق إلى خارج الوطن، إلى مرجعية إيرانية. هذا واضح لدى حزب الله في لبنان، ولكن حتى حزب الله، عندما أراد أن يحيط الدولة اللبنانية بكل مكوناتها السنية والمسيحية بسياج حول وسط بيروت في عام 2007، استعان تكتيكيا بحليف مسيحي طامح للسلطة، هو التيار العوني. حتى هذا التكتيك افتقدته المجموعة في البحرين، ولم تلتفت إلى أن طائفة من شيعة البحرين العربية لا يروق لها التحول إلى «جمهورية إسلامية بقيادة الفقيه المعصوم». المشكلة أن المزايدين هؤلاء لأسباب خاصة لديهم، سرقوا أو قل سحبوا بساط «الجمهور» من تحت أقدام المطالبين بالإصلاح، إلى مكان للمواجهة، والجمهور متى ما تسلم المبادرة خرج من دائرة العقل فأسقط في يد المعتدلين المطالبين بترقية العمل السياسي إلى شكل أفضل. قلت بعد المناوشات الأولى التي سقط فيها ضحايا مع الأسف، تم فتح باب الحوار وكان يمكن أن يتطور إلى الأفضل.

لم تلتقط القلة معنى فتح باب الحوار، وجاراها البعض لسببين، الأول افتقادهم للرؤية السياسية، والثاني خسارتهم للجمهور الذي حشد في اتجاه آخر، دون التفات إلى الأجندة الخفية، التي واصلت التصعيد إلى حد الذهاب إلى جمهورية إسلامية. ذلك التصعيد سحب الشريك الوطني السني بمعظمه من الساحة وأربك الشريك الشيعي المعتدل وخفض صوته. وكانت المطالب هزلية إلى حد الإصابة بالغثيان.. التخلص من الشريك السني في البلاد، لأنه هناك منذ 300 عام فقط! لو وضع هذا الشرط في أماكن أخرى من العالم، لما وجدنا لا الأسرة الحاكمة البريطانية ولا ميركل ولا حتى ساركوزي أو أوباما! لم يكن أحد في تمام عقله يروم الموافقة على مثل هذه المطالب إلا القلة التي هندستها، وبذلك شعرت تلك القلة بأن الميزان يميل إلى غير صالحها، فما كان منها إلا التصعيد العبثي.. أولا باحتلال الشوارع المحيطة بدوار الاعتصام ذهابا وإيابا من أجل شل حركة المواطنين كليا، ثم التصعيد الثاني بالذهاب إلى قصر الحكم، رغم تحذير الشركاء السياسيين من مغبة ذاك التحرك، ولما لم يجد ذلك في الإثارة السياسية، ذهبت طائفة منهم لترويع الطلاب في جامعتهم. إن أضفنا إلى كل ذلك رفع علمهم الخاص ذي الدلالة التي لا تخفى، فعلم البحرين الرسمي الأحمر والأبيض له 5 مثلثات، كما هو منصوص عليه في مرسومه الصادر بذلك، وهي تمثل أركان الإسلام الخمسة، أما العلم الذي رفع في دوار التعاون، فله 12 مثلثا!.. لمن يريد أن يفهم الإشارة!

ظهرت القضية على أوضح ما يمكن أن تظهر، جماعة تريد أن تأخذ البلاد إلى مكان آخر كليا وإلى جغرافية سياسية مختلفة، إلى حكم ديني مذهبي يضج أهله الأصلاء في إيران من تضييق قاتل على الحريات.. بل إن أولئك لهم رأي في العرب سلبي، أكانوا شيعة أم سنة، إنهم أعراب، هكذا يشيرون إلى العرب في لغتهم، في استعارة من النص القرآني الكريم. إن اختفاء المكون الديمقراطي والحكم المدني والتعويض عنه بحكم ديني طائفي، لا يرضي طائفة واسعة من المكون الاجتماعي بجناحيه في البحرين، ولا يرضي أي عاقل فطن، يريد أن تسير أوطاننا إلى ما يسير إليه العالم من تقدم، لا إلى تقهقر، تحت أي ذريعة.

القضية باختصار وراءها تمن بالتوسع الإيراني بعد نفوذ شبه مطلق في العراق وتحالف واسع مع غيرها ولا تهتم هناك بالسؤال من هم الأقلية ومن هم الأغلبية.

إن ما يرشح من أحداث البحرين اليوم جد خطير، فالحديث عن تصفيات لأشخاص، ووضع علامات على منازل المنتمين إلى السلك العسكري، من أجل التعامل معهم لاحقا، ربما ينذر بعنف قد يتحول، لا سمح الله، إلى صراع أهلي.

المطلوب هو تدخل العقلاء، واقتلاع شوكنا بأيدينا، وإرجاع الأمر إلى ساحته السياسية.. فالبحرين اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما، إما فصلها عن محيطها الطبيعي وربطها بإيران، وإما زيادة ربطها بعروبتها المهددة سياسيا، من خلال حوار سياسي حضاري مسؤول يوصلها إلى مرفأ الأمان.. هي باختصار بين فصل وربط.