لماذا خسر القذافي بالفعل؟

TT

انتهت المعركة. وسواء هزم العقيد معمر القذافي المتمردين بشرق ليبيا أم لا، فقد انتهت أي شرعية كان يتمتع بها من قبل. لديه أسلحة ودبابات وطائرات، ولكنه خسر دعم عناصر المجتمع الليبي التي كانت مستعدة في السابق لأن تنتظر مع الأمل بأن يحدث إصلاح سياسي. وتقتصر قاعدة دعمه حاليا على حلفاء متعصبين ومرتزقة أجانب. ربما يفوزون في الميدان، ولكنهم يخسرون في نهاية المطاف.

لقد كانت الانتفاضات داخل تونس ومصر أحداثا مشجعة على ذلك، ولكن حصلت المقاومة على محفزها الرئيسي من تجربة الاستعمار القاسية الليبية. الشيء الأكثر وضوحا في لغة التمرد هو كيف أن الفكرة المناهضة للاستعمار التي استخدمها العقيد القذافي تحولت حاليا ضده وتُستخدم حاليا على موقعي «تويتر» و«فيس بوك». وحتى مع تعرضهم للهجوم من جانب قوات العقيد القذافي إلا أن المتمردين عارضوا الدعوة لتدخل غربي قوي على الرغم من دعمهم لفرض حظر جوي.

ويوضح تاريخ ليبيا السبب وراء ذلك، ففي الفترة من عام 1911 حتى 1943، مات نصف مليون ليبي تحت الحكم الإيطالي، ومن بينهم 60.000 في معسكرات اعتقال يديرها الفاشيون. ويعود المنحى الشعبوي القومي الذي اعتمد عليه العقيد القذافي إلى صدمات الحقبة الاستعمارية، وتم إخفاؤها خلال الملكية التي حكمت في الفترة من 1951 حتى 1969.

وقاد النظام، الذي ظهر بعد انقلاب أبيض عام 1969، ضباط من بيئات أدنى الطبقة المتوسطة مثلوا جميع المناطق الثلاث الليبية وحظوا بدعم مواطنين الكثير منهم يعيش في الريف. وعلى الرغم من أنه كان مناهضا للاستعمار ومناهضا للشيوعية ودعا إلى قومية عربية وهوية ثقافية إسلامية، فإن الحكومة الجديدة لم يكن لديها أجندة سياسية لها شكل واضح. وبدلا من ذلك كانت تبحث عن دليل يوضح الطريق في ثورة 1952 المصرية. وأضاف فصيل القذافي، الذي عزز السلطة عام 1979، إلى هذا المزيج الآيديولوجي تصوراته عن مجتمع اشتراكي رعوي يعتمد على السكان الأصليين وتدعمه عوائد النفط وعمال من الخارج.

وأساء محللون غربيون، ركزوا على شخصية الزعيم الليبي وأسلوبه الغريب، تفسير نظامه، وقالوا إنه انحراف تاريخي. وفي الواقع، فإنه نظام متجذر في ليبيا الجنوبية الوسطى، بثقافتها الإسلامية وشبكاتها العائلية وخوفها من دولة مركزية وعدم الثقة في الغرب. لقد حوّل العقيد القذافي المنحى المعادي للاستعمار والقومية الليبية إلى آيديولوجيا ثورية، مستخدما لغة يفهمها الليبيون العاديون. واستخدم كاريزميته من أجل حشد الليبيين والهجوم على خصومه. يتحدث ويأكل ويلبس مثل رجل قبلي ريفي.

ولكن «القبلية»، التي تذكر كثيرا في تغطية الثورة، ليست سمة سرمدية في المجتمع الليبي. ولكنها كانت مجرد صورة لأسلوب العقيد القذافي في الحكم القائم على بث الفرقة والغزو. ومن أجل إضعاف المعارضة من الطلبة والمثقفين والطبقة المتوسطة، استخدم النظام الحاكم سياسة «البدونة»، مهاجما ثقافة حضرية، وروج لطقوس واحتفالات وموسيقى وثياب ريفية، وقام بإحياء مؤسسات مثل مجالس القيادة القبلية. وخسرت العاصمة طرابلس الكثير من طابعها الحضري مع نموها.

وعلى مدار عقديها الأولين، أحضرت الثورة الكثير من المكاسب إلى الليبيين العاديين: تعليم واسع النطاق ورعاية صحية مجانية وتحسن في الظروف المعيشية. واستفادت النساء على وجه الخصوص من ذلك، وأصبحن وزيرات وسفيرات وقائدات لطائرات وقاضيات وطبيبات. وحصلت الحكومة على دعم واسع من الطبقات الأدنى والمتوسطة.

ولكن بدءا من الثمانينات، قوضت المركزية المبالغ فيها القمع من جانب القوات الأمنية وانهيار حكم القانون من تجربة الشعبوية المحلية. وضعفت مؤسسات مثل المحاكم والجامعات والاتحادات والمستشفيات. كما ذبلت أو اختفت بعض الروابط المدنية التي جعلت المجتمع الليبي يبدو أكثر ديمقراطيا من الكثير من دول الخليج العربي خلال السبعينات. ومثل المناخ الدولي العدائي والتقلبات في عوائد النفط ضغوطا إضافية على النظام الحاكم.

ورد على ذلك من خلال تحويل طقوسه الخاصة بعبادة البطل إلى كلام عن الآيديولوجيا الأفريقية. كما تحول أيضا إلى أعمال العنف. وبعد محاولات انقلاب متكررة، قام بالإجهاز على معارضين وسجنهم ونفيهم. وعين في القوات الأمنية أقارب وحلفاء يثق فيهم من وسط وجنوب ليبيا. وخلال التسعينات، ومع تأثيرات العقوبات الاقتصادية وتدهور التعليم والرعاية الصحية وارتفاع معدلات البطالة أصبح الاقتصاد معتمدا بدرجة أكبر على النفط وأصبح النظام الحاكم فسادا بقدر أكبر.

ولكن ما لم يحظ بالاهتمام منذ بدء التمرد في منتصف فبراير (شباط) هو التحول الديموغرافي الذي جعل ذلك ممكنا، حيث يعيش 80 في المائة من الليبيين حاليا داخل مناطق حضرية ومدن صغيرة وكبيرة. ولدى ليبيا اليوم اقتصاد عصري وارتفع معدل القادرين على القراءة والكتابة. ويضم قادة الانتفاضة محامين وقضاة وصحافيين وكتابا وأكاديميين ونشطاء مهتمين بحقوق الإنسان وضباط جيش سابقين ودبلوماسيين - نخبة حضرية كبيرة عانت من الاضطهاد ونفد صبرها.

ولو رد العقيد القذافي بانفتاح على دعوات الإصلاح ولم يبالغ في الرد على الانتفاضات داخل تونس ومصر، ربما تم استرضاء النخبة الحاكمة وتجنب التمرد العنيف. ولكنه فجره. وبمجرد أن قام الجيش والشرطة التابعان له بإطلاق النيران على المحتجين، أطلق العنان لحالة السخط داخل المجتمع الليبي، وقد تأخر الوقت ولم يعد في مقدور النظام الحاكم السيطرة عليه. وخلال الأسابيع الأخيرة حظيت الثورة بدعم من أماكن ريفية كانت موالية للقذافي تاريخيا. وبغض النظر عن كمية الدماء التي تسقط حاليا، فإن الانتفاضة لن تتوقف.

* أستاذ العلوم السياسية بجامعة نيوإنغلاند، ومؤلف كتاب «صناعة ليبيا الحديثة: تشكيل الدولة والاستعمار والمقاومة، 1830 - 1932»

* خدمة «نيويورك تايمز»