دخول المنطقة الرمادية

TT

التردد الدولي تجاه ما يجب عمله في ليبيا يعكس دخول الاحتجاجات الشعبية في شرك المنطقة الرمادية. لم تعد الصورة مشابهة لما كانت عليه أثناء الاحتجاجات التونسية والمصرية؛ حيث بالنسبة للكثيرين، الإعلام والمراقبين والسياسيين والناس العاديين، كان بالإمكان التمييز بين الأبيض والأسود واتخاذ موقف تجاه الصراع لأنه بدا منقسما إلى معسكر يشمل الشعب المطالب بحقوقه وحريته، ومعسكر مقابل يشمل نظاما ديكتاتوريا ونخبة فاسدة. لكن وكما قلنا منذ البداية إن عملية التغيير لن تكون بالسهولة نفسها في كل مكان من العالم العربي، وإن الصورة لن تكون بالوضوح ذاته، لا سيما عندما يحصل الاحتجاج في مجتمعات منقسمة، تضعف فيها الهوية الوطنية، ولا يبدو المجتمع المدني متجانسا وقويا. وفي بعض الأحيان يبدو أن مطلب تغيير النظام بات ينطوي ضمنيا على تقسيم البلد، كما هو الحال في ليبيا.

ضبابية الصورة جسدتها أيضا الجامعة العربية في دعوتها لفرض منطقة حظر جوي وفي رفضها للتدخل الأجنبي في الوقت نفسه، وكأن الحظر الجوي لا يعني تدخلا أجنبيا. الشيء نفسه ينسحب على الجدل الصحافي والفكري؛ حيث هنالك فريق المشككين بالنوايا الغربية يعيش حيرة بين تنديده بالتدخل الغربي وتنديده بالصمت الغربي في الوقت نفسه. فكيف وصلنا إلى هذه النقطة حيث شيء من براءة الأيام الأولى والأماكن الأولى للحركة الاحتجاجية قد بات مفقودا؟

أستطيع القول: إنه مع ليبيا والبحرين، وإلى حد ما اليمن، نشهد حركة احتجاجية يقف فيها جزء من الشعب ضد النظام وجزء آخر معه. إننا بتنا نفتقد هنا ذلك الكيان الرومانسي الجذاب الذي رأيناه في تونس ومصر، الذي نسميه «الشعب»، فحتى بلطجية نظام مصر السابق لم يكونوا بالقوة والتأثير اللذين يجعلاننا نستشعر انقساما وطنيا حادا يصل إلى مستوى التناوش بالأسلحة الثقيلة كما هو الحال في ليبيا.

إن تونس ومصر قدمتا نموذجين لدول قطعت شوطا مهما نحو بناء مجتمع مدني حي، ويعود ذلك، إلى حد ما، إلى أن الأنظمة السابقة، على الرغم من علاتها كلها، كانت قد طورت مستوى التعليم، وسمحت بقدر ولو محدود من الانفتاح المعلوماتي على الأقل، لكن الأهم من ذلك هو أن تلك الأنظمة، ولأسبابها الخاصة، لم تكن قادرة على التصرف برعونة ولا عقلانية نظام القذافي. فالنظامان المصري والتونسي كانا يحصلان على مواردهما ومكانتهما الدولية من علاقتهما الجيدة بالغرب، سواء أكانت العلاقة مع الحكومات والمنظمات المالية الدولية، وهي علاقة وفرت لهما دعما ماليا سخيا، أم كانت علاقات بالمجتمعات المدنية والغربية عبر السياحة تحديدا، التي وفرت مصدرا آخر للدخل. وهذا النوع من العلاقات فرض على النظامين شكلا معينا في سلوكهما السياسي والالتزام بإبقاء القمع ضمن حدود معينة، وبعيدا عن عدسة الكاميرا بشكل خاص. وحالما بات النظامان عاجزين عن ممارسة الحكم بقمع محدود، وبغرف مغلقة، ضعفت قدرتهما على الوجود عبر ضمان علاقة جيدة مع الغرب؛ لأن الأخير حساس تجاه الكاميرا، فهي تجسد المشكلة أمام مواطنيه وتجعل حكوماته محرجة أمام الاستنكار الداخلي للتعاون مع الأنظمة الديكتاتورية التي لا تريدها الشعوب.

ليس جديدا أن غالبية المواطنين في مصر وتونس كانوا ضد نظاميهما، ولكن حيث لم تكن هنالك استطلاعات صادقة للرأي العام، وحيث كانت الانتخابات تزور بصفاقة، بدا أن بالإمكان التغاضي عمَّا يحصل، ولكن حالما خرج الناس بهذه الكثافة إلى الشوارع مطالبين بالتغيير وبدأت الكاميرات تنقل الحدث بالكثافة ذاتها، تغيرت الصورة ولم يعد أحد قادرا على قبول استمرار النظام أو على الأقل دعمه علنا؛ فقواعد اللعبة قد تغيرت بعد أن كانت قائمة على مبدأ: اقمع بصمت. لم يعد الصمت ممكنا في زمن باتت الثورة تنقل فيه تلفزيونيا وبشكل مباشر، وباتت وسائل الإعلام تقلب مواقع «فيس بوك» و«تويتر» لتنقب عن أخبار الثوار، الصمت لم يعد ممكنا، وكان على النظام أن يختار بين قمع علني سيجعله أمام فضيحة دولية وأمام احتمالات المحاكمة من دون أن يضمن النتائج، وبين التنازل أمام قوة الضغط الجماهيري والإعلامي.

في ليبيا لدينا نظام مختلف بتركيبته؛ فاقتصاده لا يقوم على شراء الدعم الغربي، بل على بيع النفط إلى الغرب، أي أن الاعتمادية معكوسة، وبالتالي فإن سعيه للحصول على رضا الحكومات الغربية والرأي العام الغربي ليس أولوية حياتية له بل قضية تجميلية. كما أنه حجب الصورة عن وسائل الإعلام وبالتالي منع حصول عملية نقل «الثورة» بشكل حي كما حصل في مصر وما تؤدي إليه من تحريض بقية الجالسين في بيوتهم على الخروج، وهذا المنع مرتبط أيضا بشعور النظام أن امتلاكه النفط يحرره من أي التزامات سياسية أو أخلاقية ومن أي مساءلة خارجية.

لكن في العمق من ذلك، إننا هنا بصدد أنظمة سهلت عليها موارد النفط تقسيم المجتمع؛ فالنظام الليبي واحد من أنظمة عربية كثيرة عاشت واعتاشت على الانقسامات الاجتماعية وعلى بناء مؤسسات الدولة وأجهزتها، لا سيما الأمنية منها، من خلال تقريب أجزاء من المجتمع بل ومن خارج المجتمع ومنحهم المكافآت والمنافع، على حساب أجزاء أخرى. تلك الانقسامات ذات الجذر القبلي تحولت تدريجيا إلى انقسامات راسخة بسبب تسييسها ولأنها بهذا التسييس قسمت الشعب إلى جزء مهمش ومعزول ومحروم من تلك الامتيازات، وجزء مقرب ومستفيد؛ لذلك فإن زخم الثورة توقف عند الجزء الأخير، فالمستفيدون حتى لو لم يكونوا مهتمين ببقاء النظام فإنهم خائفون من الذي سيحدث بعد رحيله. إننا هنا بصدد اختلاف آخر؛ حيث الهوية الوطنية ليست بقوة نظيرتها في مصر وتونس، وحيث النظام يعيش ويستمر من خلال مواصلة تمزيق تلك الهوية...