العركة على الكعكة

TT

كيف الخروج من هذه الهوة التي وقعنا بها؟ أولا، كيف وقعنا بها؟ أنا - ككل الآخرين - أدعو لنشر التعليم، ولكن التعليم هو الذي جر كل هذه المصائب. خلق طبقة متوسطة كبيرة واعية من الأفندية تتطلع إلى حياة مشابهة لحياة الغرب. وجاء تعليمهم من الأساس مغلوطا، ركز على دروس غير عملية. لم يعد الخريج يرضى بمتابعة مهنة والده في الزرع والضرع والصنع والبناء. هذه أعمال محتقرة لا تليق بأفندي ينظم شعرا. لا شيء يرضيه غير الوظيفة. فهذا عمل لا يتطلب أي عمل. ويقبض راتبه ثم تقاعده جاهزا شهريا. لكن ملاك الوظيفة محدود لا يستوعب كل من درس. بدأت العركة على الوظائف. وهنا دخل عنصر الولاء العائلي والقبلي والطائفي في الموضوع. إذا لم أعين أخي أو أخا زوجتي وفضلت عليه رجلا غريبا، فأنا نذل لا أرعى حرمة القربى. دخل عنصر الواسطة. إذا لم تكن لديك قرابة أو واسطة أو مرجعية فلا نصيب لك في الدولة. وتعاظمت جموع العاطلين المحرومين من الواسطة. لم يبق لهم غير أن يثوروا وينادوا بإسقاط النظام.

لا يواجه الغربيون هذه المشكلة، أولا لأنهم يحتقرون الوظائف الحكومية، وثانيا لأنهم لا يشعرون بأي ولاء عائلي أو طائفي فيختارون الرجل حسب كفاءته لا لقرابته منهم. هذا من أسرار تفوقهم علينا.

كل هذا الكلام الشبابي عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الفكر كلام ثانوي. العركة هي على الكعكة، وازدادت ضراوة العركة باكتشاف النفط الذي جعل الكعكة كبيرة ولذيذة تسر وتغري الناظرين. تغيير النظام لن يحل المشكلة. فالنظام الجديد سرعان ما يتبع سنة من كانوا قبله، كما اكتشف العراقيون. منذ أن خلقت وأنا أسمع أصداء هذه العركة. الكردي يقول: العرب احتكروا المناصب لأنفسهم. والمسيحي يقول: لا نصيب لنا في هذه الحكومة. ما إن يأتي وزير جديد حتى يبادر لطرد من في وزارته ليأتي بأقاربه وأصحابه. أنا كنت واحدا منهم. لم أحصل على وظيفة حتى تسلم إبراهيم الخضيري، أحد أقاربي، مديرية النفوس. وطردوني من عملي حالما استقال منها. بالطبع، هذا من عوامل تدني الكفاءة والإنتاجية والخبرة في عالمنا العربي.

هذا ما دفع المعارضة لإسقاط صدام حسين. ليس لحرصهم على الديمقراطية وحقوق الإنسان أو الإيمان الديني، وإنما لأنه احتكر الكعكة له ولأسرته. أدركوا أبعاد المشكلة بعد تسلمهم الحكم فسعوا إلى تقسيم الكعكة بشيء من العدالة بالمحاصصة. ولكنها أودت بالكفاءة والإنتاجية. العراق الآن - كما وصفه أحد القراء - دخل في طور المريض تحت العناية المركزة، مستلقيا على ظهره لا يقوم بأي شيء ويتلقى تغذيته من أنابيب مغروسة في شرايينه. ما تحمله هذه الأنابيب هو قطرات من واردات النفط. فمن عيوب المحاصصة أنك تحصل على الوظيفة لا حسب كفاءتك أو مؤهلاتك وإنما حسب انتمائك لطائفة وتوصيات المرجعيات.

تقسيم الكعكة - وليس مسألة الديمقراطية والحريات - هو المشكلة التي تدك صرح المجتمع العربي، كما اكتشف العراقيون الآن. وهذا ما سأعود إليه في مقالتي القادمة.