ما أسهل السقوط في جهنم

TT

لا شك أن اتزان الإنسان وهدوءه وتحكمه في أعصابه أمر حسن ومستحب، وكنت أحسد أحد الأشخاص على تمتعه بهذه المزايا التي بقدر ما حاولت التمسك بها كنت أجدها تفلت مني على الدوام.

ولا أدري من أي طينة خلق ذلك الرجل الذي ينطبق عليه مثل: (يا جبل ما يهزك ريح)!! وفعلا ما هو إلا عبارة عن جبل خامد وكئيب وبارد، ليس فيه لا شجرة ولا نبتة ولا زهرة.

لا أذكر يوما أنني قد شاهدت أسنانه، وذلك من طول صمته الرهيب، إن تكلم خرجت الكلمات المقتضبة من فمه بحرص شديد، وإذا ابتسم ابتسم من دون أي صوت، وإذا تحرك تحرك مثلما يتحرك (السلطعون). كان يميل إلى العزلة والانفراد، غير أنني في بعض الأحيان لم أكن أتركه مستمتعا بهوايته تلك، فأقتحم عليه عزلته على أمل أن أنكد عليه وأثير أعصابه، لكنه من فرط طيبته يرحب بي، والله أعلم ماذا يدور في أعماقه، هل هو مسرور بقدومي إليه فعلا، أم أنه يتمنى لو كان في مقدوره أن يقذفني خلف الشمس!!

دخلت عليه ظهر أحد الأيام في منزله ذي الطابق الواحد، فاستقبلني بوجه محايد ليس فيه أي تعبير عن النفور أو السعادة، وأدخلني معه إلى مجلسه الأرضي. ولكي أضرب لكم مثلا سريعا بمتانة الأعصاب عند ذلك الرجل، وبتخلخلها عندي فإنه لم يمض على جلوسنا أقل من دقيقة، وإذا بتيار الهواء القوي يعصف بالباب الخشبي الثقيل فينغلق محدثا صوتا مدويا يصم الآذان، ومن هول تلك الصدمة الفجائية قفزت لا شعوريا وأنا أصيح: (أنا أخو فلانة).. في الوقت الذي كان فيه هو أمامي كالتمثال لم يتحرك أو يهتز (قيد أنملة)، وعندما شاهد اضطرابي ما كان منه إلا أن قال لي بكل برود: (إنه مجرد باب)، ومد لي كوبا من الماء وكأنه يمد لي (طاسة الفجعة)، تناولته بيد مرتجفة، وبعد أن استجمعت قواي قلت له: (شكرا)، فهز رأسه من دون أن يجيبني. ودلف هو إلى داخل الدار وأحضر دلة قهوة مع صحن ممتلئ بحبات من التمر الناشف التي عندما تناولت إحداها ووضعتها في فمي وجدتها قاسية كالحجر إلى درجة أنها كادت تكسر سني، و(بحلت) واحترت فيها، ووجدت أنه من العيب أن ألفظها، وفكرت جديا أن أبلعها كاملة دفعة واحدة، لكن من حسن حظي أنني تراجعت في آخر لحظة، لأنني لو فعلت ذلك لا سمح الله فمن المؤكد أنني سوف أغص بها. ويبدو أن ذلك الرجل الخير انتبه لما أنا فيه من ورطة، فمد لي منديلا (كلينكس) قائلا: (لا عليك، أخرجها من فمك)، فشكرته، فهز رأسه من دون أن يجيبني.

وبعد عدة دقائق اتسعت أحداق عيني من هول ما شاهدت، إذ ان هناك (برصا) أو (سحلية)، وبعضهم يطلقون عليه اسم (الظاطور)، وحجمه من دون مبالغة في حجم (ضب) متوسط، كان يصعد على الحائط متجها للسقف، فارتعدت مفاصلي خوفا واشمئزازا، وأخذت أشير له بأنفاس متقطعة وكأنني أطلب النجدة، فما كان منه إلا أن يرد علي بكل بساطة قائلا: (إنني رأيته من عدة أيام، ولا أستبعد أن لديه صغارا في خشب السقف).

من حسن الحظ أننا سمعنا أثناء ذلك صوت المؤذن في المسجد القريب يدعو لصلاة الجمعة، فسألني إن كنت طاهرا وعلى وضوء!.. فلما انتهينا من الوضوء خرجنا معا نحو المسجد، هو أمامي بخطوته الرزينة الهادئة، وأنا خلفه بخطواتي المتشابكة والمتراقصة.

والمفارقة المؤسفة التي لم أتوقعها أن ذلك الرجل المحترم الصالح تعثر فجأة في حفرة أمامه لم يفطن لها، وإذا به (يتكرفس) على الأرض بطريقة غريبة جعلتني رغما عني (أسطح) وأنفجر بموجة عارمة من الضحك المتواصل.

انتبهت إلى حالي، واستطعت أن أسيطر على ضحكاتي بعد معاناة شديدة قائلا له: (سلامات، سلامات).

قام ينفض الغبار من على ثيابه، ويتحسس كدمة زرقاء على جبينه قائلا لي وكأنه يريد أن يلقمني حجرا: (ما أسهل السقوط في جهنم)، عندها شعرت بالخجل، فهززت رأسي من دون أن أجيبه.

[email protected]