اجتماع باريس.. فرصة للسلام في شمال أفريقيا؟

TT

في بعض الأحيان، يصبح أكثر التساؤلات على الصعيد السياسي العالمي صعوبة: وماذا بعد؟ وهذا هو التساؤل الذي سأطرحه - وأشرع في تقديم إجابة عنه - أثناء القمة المنعقدة في باريس السبت، لمناقشة الأوضاع في ليبيا (كتب المقال قبل انعقاد القمة). ويعج التاريخ بأمثلة على حروب تم إحراز النصر فيها، لكن سرعان ما وقعت الهزيمة الحقيقية وقت السلام. في أوروبا، ارتُكبت أخطاء بشعة بعد الحرب العالمية الأولى مهدت الطريق أمام الحرب العالمية الثانية. لكننا أحرزنا نجاحا أكبر بعد عام 1945، رغم الحرب الباردة، وذلك لأننا أدركنا أن ما نحتاجه يتجاوز مجرد إنزال الهزيمة بهتلر، وإنما كان علينا إعادة بناء قارة محطمة.

في حالة ليبيا، يعني النجاح أكثر من حماية المدنيين خلال الأيام المقبلة، أو حتى ضمان وضع نهاية لنظام العقيد القذافي. وإنما يستلزم النجاح وضع استراتيجية لما سنفعله بعد ذلك. وأنوي تركيز مناقشاتي على كيفية الارتقاء لمستوى هذا التحدي.

إننا ندرك، من حيث المبدأ، ما نحتاج فعله لإرساء أسس الديمقراطية المتأصلة - الديمقراطية التي تدوم ولا تتلاشى بمرور الوقت. إننا بحاجة لإقرار حكم القانون على يد قوات أمن أمينة وقضاة مستقلين. ونحتاج لأن تتسم الحكومة الوطنية والمحلية بالفعالية والشفافية، ونحتاج لفرض حقوق الملكية وحرية التعبير وحرية تكوين النقابات. وقبل كل ذلك، نحتاج لنشر الرخاء بسرعة كافية عبر جميع أرجاء المجتمع بحيث يشعر كل فرد أن له مصلحة مباشرة في الإصلاح الديمقراطي.

وما سبق ليس مجرد أفكار غربية ليبرالية. لقد عاينت شخصيا، خلال الأسابيع الأخيرة، أنها تلهم الإصلاحيين في تونس والقاهرة، ووجد فريق العمل المعاون لي أن هناك شهية كبيرة تجاهها في شوارع بنغازي، بل وحتى طرابلس.

وسوف أعمل على تحديد ما يمكن للاتحاد الأوروبي فعله، والكيفية التي نرغب في العمل من خلالها مع باقي العالم الغربي - وأيضا جامعة الدول العربية، وهو أمر بالغ الأهمية - لتحقيق المرجو. لقد دعا البعض لإقرار «خطة مارشال» جديدة. وقطعا هذه المشاعر تسير في الاتجاه الصائب، لكن شمال أفريقيا في القرن الـ21 يختلف عن أوروبا في أربعينات القرن الماضي. إننا بحاجة لصياغة استراتيجية جديدة مستهدفة للتعامل مع المهمة القائمة أمامنا الآن، وهذا تحديدا ما عكفنا عليه داخل الاتحاد الأوروبي. في قلب الاستراتيجية الجديدة تكمن ثلاثة عناصر: المال والقدرة على الوصول للسوق والقدرة على الحركة.

فيما يخص المال، أود من أوروبا التبرع بمليارات اليورو لتطوير اقتصاديات ليبيا ومصر وتونس. وسيأتي جزء من هذه الأموال من أموال الاتحاد الأوروبي. وآمل أن تنضم إلينا الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والبرلمانيون الأوروبيون في مساعينا لتوفير باقي الأموال اللازمة من «مصرف الاستثمار الأوروبي» و«المصرف الأوروبي لإعادة التعمير والتنمية».

في وقت سابق من هذا الأسبوع، التقيت بوزيرة التخطيط والتعاون الدولية المصرية فايزة أبو النجا التي أخبرتني أن الحاجة الأكثر إلحاحا أمامها الآن هي بناء مليون مسكن جديد. وأود أن تساعدها أوروبا، بالتعاون مع جهات أخرى، على تحقيق ذلك، وكذلك المساعدة في تمويل مشروعات بنية تحتية بمختلف أرجاء تونس وليبيا خلال مرحلة ما بعد القذافي. كما أننا نملك الموارد والخبرة والعزيمة اللازمة للمساعدة في بناء مؤسسات مجتمع مدني صحي، وقد شرعنا بالفعل في مناقشة مشروعات مفصلة مع الحكومتين الجديدتين في تونس ومصر. كما أن بإمكاننا المعاونة في تنظيم ومراقبة انتخابات حرة بالبلدين.

إلا أننا نعي أنه في النهاية لن تضطلع المساعدات الا بدور محدود، ويجب على الدول المعنية ذاتها العمل وشق طريقها نحو الرخاء. ومن هنا تنبع الأهمية الكبيرة للقدرة على الوصول إلى الأسواق، بمعنى القدرة على بيع السلع بدول ذات أوضاع اقتصادية جيدة.

وباعتبارها أقرب جيران أفريقيا الأثرياء، أمام أوروبا دور محوري عليها الاضطلاع به. من الناحية الرسمية، هناك القليل من العوائق التجارية، لكن هناك عقبات أخرى تتمثل في إصرارنا، عن حق، في أن تكون الواردات القادمة إلينا، والمتنوعة ما بين مواد غذائية ومنتجات مصنعة، متوافقة مع أعلى المعايير. وعليه، فإننا بحاجة للعمل على إزالة العوائق التعريفية المتبقية بمرور الوقت، وأيضا التعاون مع الديمقراطيات الجديدة بشمال أفريقيا لمساعدتها عمليا على بيع سلعها وخدماتها داخل أوروبا.

من بين الإجراءات المحددة، التي أطلب من الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي إقرارها، صياغة برنامج لدعم التنمية الريفية في شمال أفريقيا، بحيث تتمكن مصر وتونس، وفي الوقت المناسب ليبيا من زراعة منتجات غذائية على مستوى الجودة المطلوب داخل أوروبا. ومن المتوقع أن تساعد مثل هذه الإجراءات في اجتذاب الاستثمارات الخاصة الحيوية لتحقيق الرخاء في هذه الدول.

إضافة إلى ذلك، فإن ضمان القدرة على التحرك بحاجة إلى عدد من الإجراءات. يذكر أن الاتحاد الأوروبي يملك بالفعل عددا من برامج المنح مثل «إراسموس موندوس» و«يوروميد يوث» و«تمبوس». ومن الممكن تعزيز هذه البرامج لجلب مزيد من الطلاب إلى أوروبا، وبالتالي المعاونة في تعزيز قاعدة المهارات بالديمقراطيات الجديدة. كما يتعين علينا مراجعة إجراءات الفيزا الخاصة بنا، بحيث يتمكن رجال وسيدات الأعمال، أصحاب المهارات المهنية، من التنقل بين أوروبا وشمال أفريقيا بسهولة أكبر.

أعترف أن هذه الأجندة تفتقر إلى مظهر براق، لكنها لا تفتقد الطموح. في الأسابيع الأخيرة، قال الكثيرون إن الأحداث الجارية في شمال أفريقيا تحمل تحديا من نوع خاص على الاتحاد الأوروبي النهوض لمستواه، وأتفق مع هذا الرأي. ومن المهم بالنسبة للعالم أن تصبح ليبيا ومصر وتونس ودول أخرى ديمقراطيات مستقرة. ويحمل هذا الأمر أهمية خاصة بالنسبة لأوروبا بالنظر إلى أن هذه الدول جيران لنا. إن الفشل سيترك تداعيات سيئة على مواطنينا، وليس على مواطني هذه الدول فحسب.

إن الاختبار القائم أمامنا ليس فقط ما ستحمله الأيام المقبلة، وإنما أيضا الشهور والسنوات التي ستعقب عودة السلام وتحول تركيز وسائل الإعلام إلى أزمات جديدة بمناطق أخرى. اجتماع باريس يمنحنا الفرصة للتخطيط للسلام، وعلينا اقتناصها.

* الممثلة العليا للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية بالاتحاد الأوروبي

* خدمة «نيويورك تايمز»