خادم الحرمين الشريفين.. هكذا عهدكم الوطن مفتاحا للخير مغلاقا للشر

TT

لا يسع المرء في مثل هذه المواقف إلا أن يرفع يديه للمولى عز وجل بالدعاء الصادق لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز – يحفظه الله – بأن يجزيه عن ما قام به نحو وطنه وأمته خير ما يجزي به عباده الصالحين. وكم كانت الفرحة غامرة عند كل المواطنين عندما رأوه – يحفظه الله – يخاطبهم وهو في أتم الصحة والعافية بعد أن من الله عليه بالشفاء وعاد إلى أرض الوطن، يحمل كل معاني الحب والوفاء لهذا الوطن الغالي ولهذا الشعب النبيل، ومن يتعمق في هذا الموقف يستذكر قول الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم: «.... إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه»، حيث يلمس المتابع المتجرد أن هذا الملك الصالح إنما هو - بإذن الله - أحد مفاتيح الخير ومغاليق الشر، وما هذه الأوامر الكريمة بما تحمله من دلالات للخير ومنع للشر إلا تأكيد على أنه – يحفظه الله – ممن يحملون لواء الحق والعدل، فليبارك لنا المولى عز وجل في عمره، ويجزه عنا خير الجزاء.

حقا: لقد استبشر المواطنون بكل فئاتهم بتلك الأوامر الملكية الكريمة التي صدرت يوم 13/4/1432هـ، بعد أن استمعوا إلى تلك الكلمة الصادقة التي وجهها سيدي خادم الحرمين الشريفين إلى أبنائه وبناته في هذا الوطن الغالي، وما مثله ذلك من شعور متبادل بين القيادة والشعب، وهذه ولله الحمد من أهم الخصائص التي يتميز بها هذا الوطن وقادته.

عشرون أمرا ملكيا تصب في مسيرة التنمية الشاملة، حيث أوجدت هذا الكم الهائل من المشاعر العفوية والصادقة من أبناء هذا الوطن نحو قائد مسيرتهم – يحفظه الله.

لا يمكن للمتابع أن يستعرض كل ما صدر في مقال عابر، أو أن يوفي لهذا القائد حقه من الشكر والامتنان لقاء ما قدمه ويقدمه لهذا الوطن وأبنائه، لكنها لحظة من لحظات الشعور الوطني تستوجب منا الحديث عن بعض هذه القرارات الاستراتيجية، ولو على سبيل الإشارة لتناول الأبعاد الإيجابية لها، وما تشكله من نقلة نوعية متقدمة في مسيرة التنمية الشاملة، ولعل من أهم هذه القرارات إنشاء «الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وحماية النزاهة الوظيفية»، حيث جاء إنشاؤها كهدف استراتيجي، وها هو خادم الحرمين الشريفين – يحفظه الله – يفي بوعده عندما قال: «سأضرب هامة الجور والظلم بسيف الحق والعدل»، وما ذلك إلا لإيمانه بأنه إنما يستمد قوته من الله ثم من شعبه، فحقق ما وعد به، بعد أن أخضع هذا المشروع للدراسة والبحث الواسع، من خلال إدراكه أن هذا يعني تحولا جذريا في ضبط الإجراءات، كيف لا؟ وهو أول من نادى بتحقيقه يوم كان وليا للعهد عندما أصدر تعميما قويا عام 1422هـ بشأن «التأكيد على عدم تعطيل مصالح الناس وحقوقهم، والحرص على الأمانة والإخلاص، والمحاسبة، وعدم الاستهانة بالعمل الموكل للموظفين، والرفع أولا بأول عن أي مواضيع موجودة لدى الأجهزة وعدم تركها فترة طويلة»، ثم تعاهد هذه الرؤية، إلى أن ظهرت كواقع، بإنشاء هذا الجهاز المختص، حيث أدرك بحسه الوطني الصادق أن تكلفة الفساد عالية جدا، وأن آثاره المدمرة تفرض ضرورة الاهتمام به، عندما تصبح قضايا الفساد أو بعض ممارساته سلوكا وظيفيا يضعف من كفاءة أداء الأجهزة العاملة، فيختل ميزان العدالة، وتتضرر المصلحة العامة.

وإذا كانت القاعدة الشرعية والأخلاقية تستهدف بالدرجة الأولى جلب المنفعة ودفع المضرة، فإن كل سلوك يخالف هذه القاعدة يعتبر «منحرفا» ويصب في خانة الفساد، ولهذا جاء الأمر الملكي بإنشاء الهيئة المختصة بمكافحة الفساد من منطلق قناعته – يحفظه الله – بأن مسؤولية الدولة في النظام الإسلامي وفي النظم المستحدثة كافة، ترتكز أساسا على تحقيق المصلحة ودرء المفسدة، سواء من خلال الوظائف العامة بحسن إدارة المال العام واختيار الموظفين الأكفاء، ومحاسبة المقصرين، أو من خلال وسائل المكافحة المتنوعة بوضع الأنظمة، وضبط مسائل التجريم والعقاب، أو من خلال الوازع الديني والأخلاقي المرتبط بالقيم والمبادئ.

إن إنشاء هذه الهيئة يعني أننا أمام نقلة نوعية متقدمة جدا في ضبط الإجراءات، لا سيما في هذه المرحلة التي زادت فيها فرص التنمية، وتعددت اهتمامات الدولة في كل جانب، الأمر الذي تنتشر معه حالات الفساد إلى أن تشكل «ظاهرة» تستدعي الحل، ومن هنا أصبح الفساد من أهم المواضيع التي شغلت كافة دول العالم بعد أن ارتبط بالجريمة والجريمة المنظمة، فعقدت من أجلة المؤتمرات، ورصدت الأموال الطائلة لمكافحته، وشكلت لهذا لجان دولية تعمل على كشف حالات الفساد على مستوى العالم، لما له من آثار مدمرة للمجتمعات، باعتباره من أهم أسباب التخلف الاجتماعي والاقتصادي، واختلال ميزان العدالة والمساواة، وانتشار الظواهر الإجرامية الخطيرة، ولهذا جاء حرص المملكة على محاربة هذه الآفة، حيث تولى سيدي النائب الثاني وزير الداخلية مسؤولية وضع الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد وحماية النزاهة الوظيفية التي تمت موافقة المقام السامي عليها عام 1428هـ ووضعت كأساس لهذا التوجه الذي تحقق بإنشاء الهيئة، بهدف تصحيح الانحرافات التي أدت إلى ضعف أداء بعض الأجهزة وتعثر بعض المشاريع أو التلاعب فيها، وإلى عدم وصول الحقوق إلى المواطن بالصورة التي يتطلع إليها ولاة الأمر، ولهذا فإن تطلعات المواطن تتجه أكثر من أي وقت مضى إلى مقاومة الفساد وكيفية حفظ المال العام، لا سيما بعد أن انكشفت حالات فساد ما كان لها أن تحدث لو كانت هناك رقابة صارمة على الأداء.

ربما اطمئن بعض الفاسدين إلى أنهم فوق الشبهات أو أنهم خارج إطار المساءلة، وأنه لا أحد قادر على كشف فسادهم، وعندما أيقنوا بذلك وبسطوا نفوذهم، وتعدى أذاهم، ووصل شرهم إلى التأثير على جوانب التنمية، ها هو خادم الحرمين الشريفين يضرب هاماتهم بسيف العدل، ويضعهم أمام مسؤولياتهم إما الوفاء لهذا الوطن وإما العقاب. فالحق أحق أن يتبع ولا عذر لأحد بعد اليوم، لا سيما وقد تم ربط هذا الجهاز بمقامه الكريم، الأمر الذي يجعله يستمد قوته من قوة ولي الأمر مباشرة.

علينا أن ندرك جيدا، وفي هذه المرحلة بالذات، أن مواجهة الفساد تتطلب إرادة وعزيمة صادقة وقوية، لأن عمق الفساد لا يتوقف عند ارتكاب الأفعال فحسب، بل إن الفاسدين يذهبون إلى أبعد من ذلك عندما يمارسون فسادهم وهم يتقمصون ثوب الصلاح وحماية المصلحة العامة، كما أشار إلى ذلك المولى عز وجل بقوله: «وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون» (الآيتان 11، 12: البقرة).

ولأن بعضهم قد يجد من يدافع عنه من خلال حسن النية أو تبادل المصالح، فإن الفاسدين سيقاومون بكل شراسة أي تغيير يهدد مكتسباتهم، وسيعملون جاهدين لتغيير استراتيجياتهم لتحقيق الفساد، وسيشعرون من حولهم وكأن الأمر لا يعنيهم من قريب أو بعيد، وقد يزايد بعضهم على القيم الأخلاقية بأنهم ضد الفساد، ويطالبون بتطبيق الأنظمة وإنزال أشد العقوبات على مرتكبيه، وقد لا يتورعون عن إلحاق الضرر بمناوئيهم وإلصاق التهم بهم، وربما الاعتداء عليهم بالطرق التي يبدعون فيها، وهذا يتطلب الأخذ بوصية لقمان عندما أوصى ابنه في قوله تعالى: «يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور» (آية 17: لقمان).

إن جرائم الفساد تستخدم كل الوسائل الممكنة لتحقيق أهدافها، والأشخاص الفاسدون سواء كانوا من أصحاب السلطة الوظيفية أم من ذوي النفوذ يبدعون في التلاعب بالأنظمة، واستغلال الفرص، وتفسير التعليمات، لكي يصلوا إلى أهدافهم دون ترك آثار، ولهذا لا بد أن يكون التصحيح بنفس المستوى من الإبداع لكي يفهموا الرسالة جيدا!!!

ومن هنا لا بد من تغيير الوسائل التي تُعتمد سابقا في كشف حالات الفساد، والتشخيص الدقيق للخصائص التي يعتمد عليها، ومعرفة كل الجوانب التي ترافقه، مع التركيز على الإجراءات الوقائية، وإيجاد القيم المحفزة للعمل الشريف، والصدق والنزاهة، وألا يقتصر ذلك على مجرد الوعظ والإرشاد، بل من خلال إشاعة القيم الأخلاقية، والمواطنة الصادقة عند كل أصحاب السلطة الوظيفية وأصحاب النفوذ بمختلف مستوياتهم، مع إتاحة الفرصة للجميع بالاطلاع على المعلومات، والتعامل مع الواقع بكل شفافية، وكشف أي حالة فساد تظهر، ومتابعة مرتكبها كائنا من كان، وعدم حمايته مهما كانت الأسباب، وألا نتلمس أي عذر في الدفاع عن الفاسدين، أو نربط عدم محاسبتهم بأسباب لا علاقة لها بالواقع أو نكتفي بمجرد إبعادهم عن مناصبهم، في الوقت الذي ينوء فيه المجتمع بحمل آثار فسادهم التي قد تصل أحيانا لمستوى الجريمة عندما يحولون دون وصول الخدمة للمواطن البسيط وصاحب الحاجة، فينعكس ذلك سلبا على الأمن العام، وعلى تحمل أجهزة الدولة نتائج تقصير هذا المسؤول أو ذاك، وبالتالي تولد الشعور بعدم الرضا واختلال ميزان العدالة!!!

إن المواطن الصالح هو صمام الأمان لوحدة هذا الوطن، كما قال خادم الحرمين الشريفين – يحفظه الله – وأكد عليه رجل الأمن الأول سيدي سمو النائب الثاني وزير الداخلية، عندما قال في حديث سابق إن تقصير بعض الجهات في إيصال الخدمة للمواطن ستتحمل نتائجه أجهزة الأمن، وهذا يحملنا جميعا مسؤولية القيام بواجباتنا على الوجه الأكمل من خلال إدراكنا لمسؤولياتنا الوطنية، ونبذ الفاسدين، وهم ولله الحمد «قلة» واتخاذ موقف واضح معهم، حيث أدركوا الآن أن الوقت قد حان لكشف أي تلاعب يؤدي إلى الفساد ويحد من فرص التنمية التي يرعاها ولاة أمر هذه البلاد، وعلى رأسهم سيدي خادم الحرمين الشريفين وسمو سيدي ولي العهد وسمو سيدي النائب الثاني – يحفظهم الله – وأن تحقيق العدل ورفاهية المواطن هدف ثابت لا يمكن التخلي عنه أو التأثير عليه.

حمى الله بلادنا من كل مكروه، وأدام علينا نعمة الأمن والأمان «وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون».

وبالله التوفيق