منذ اللحظة الأولى كان معروفا أننا دخلنا دوامة صدام حسين. دوامة الرجل الإله، الأكثر أهمية من شعبه ومن وطنه ومن أمته. تساوى الاثنان في فظاظة العبث بالنفوس وبالأرواح وبالكرامات. كلاهما جاء من منشأ لا يقر بوجود الآخر إلا ملغى. الأول كان مجده مسدسه، والثاني حضر أول قمة عربية ومعه مسدس يريد قتل الملك حسين، وقد انتزعه منه جمال عبد الناصر.
كلاهما ألغى كل الذين جاءوا به وساعدوا في صعوده. الأول استخدم مسدسه في قتل أقرب الرفاق، وترك القبيلة تقتل آباء أحفاده. الثاني ترك لصهره عمليات الإبادة. في الأيام الأخيرة كان الأول يخرج إلى الشرفة وخلفه ابناه في بلد من 30 مليونا. وفي الأيام الأخيرة لم يظهر وجه في ليبيا إلا وجهه ووجه ابنه. أقيم الحظر الجوي لكي لا يقصف الأول شعبه بالطائرات، وأقيم فوق ليبيا بعدما قصف الثاني شعبه برا وبحرا وطائرات ميغ.
تلك هي كلمة السر: الميغ. المرحلة السوفياتية التي جاءت منها ثقافة الستينات: اختصار الشعوب بالمدرسة الحربية واعتماد كتاب «الرأسمال» في اليمن الجنوبي، وكأن فيه ثروات ألمانيا وأساطيل بريطانيا ولورداتها. سقط بريجنيف في موسكو وظل حاكما في بغداد وطرابلس. الأول كان أكثر تأدبا في مخاطبة شعبه وفي مخاطبة الآخرين. ترك لوزير إعلامه المبتكر أوصاف الأوغاد والعلوج. الثاني انفجرت ذاته بلا توقف: خونة كلاب وجراثيم. توقف عن كل شيء عندما قصف باب العزيزية. فورا أعلن وقف النار ودعا إلى تظاهرة سلمية تسير إلى بنغازي، مدينة المهلوسين. منذ اليوم الأول وهو يقول إنها «القاعدة» وعندما سمع طائرات التحالف قال إنها حرب على الإسلام.
لم يصدق أن شعبه يهزج للقصف الغربي. لم يدرك صدام حسين أن فرنسا لا يمكن أن تستبدل بمصالحها التجارية مصالحها الاستراتيجية مع أميركا. لم يصدق الأخ قائد الثورة أن الإيطالي الذي عقد معه صفقة وقبَّل يده لن تسمح له المؤسسات الديمقراطية بالمضي في التقبيل.
انتهى عصر الستينات، سواء الأنظمة التي ساعدت أميركا في ترتيبها، كما في مصر وتونس، أو تلك التي لم تتخذ من السوفيات سوى التخلف الاقتصادي وقاموس الفظاظة والخشونة والتحقير. يبحث العرب الآن عن قادة يحبون شعوبهم لا عن قادة يؤلهون أنفسهم. يريدون حوارا قلبيا مع القادة، لا مسرحا خاليا إلا من صاحب المونولوغ. سئموا الأبطال الذين لا بطولة لهم سوى الجثم فوق الصدور. سئموا التنقل في المنافي ويريدون العودة إلى أرضهم. تظاهرة سلمية إلى بنغازي! بعد ماذا؟ من يمكن أن يصدق؟