جناية التسبب في إيذاء الإسلام والمسلمين

TT

التبصر مطلوب في كل وقت.

بيد انه في ظلمة الفتنة المطبقة أولى وأوجب. وفي فتنة التفجيرات في نيويورك وواشنطن، غشي الناس غواش: استسهال إصدار الأحكام، وكثرة الكلام غير المحسوب، والغلو هنا، وهناك، وإعجاب كل ذي هوى برأيه وهواه.

وهذه ازمة ترفد ازمة التفجير بالمزيد من الظلمات ولا ضياء في هذه الظلمة، ولا عاصم من هذه الفتنة الا باستحضار (المعايير الصحيحة)، والا الاعتصام بالهدى المبين.

ومفتح ذلك وعماده هذا السؤال الفيصل:

ما مقياس النهضة السليمة الواجبة؟

ما معيار العمل الصالح الناجح؟

مهما تعددت المقاييس الحقة، وتنوعت المعايير المعتبرة، فإن أعظمها، واوفاها معنى، واولاها بالتقديم: مقياسان رئيسان، ينتفى المراء حولهما عند اولي العلم والنهي، وهما: 1 ـ المقياس الأول لكل عمل صالح ناجح هو: تعزيز مكانة الاسلام، والحرص على بقاء صورته حسنة نيرة، اذ هو حُسْن كله، نور كله.

أولا: الدليل على الصورة الحسنة للإسلام:

أ ـ «صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة» ب ـ «ومن احسن دينا ممن اسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة ابراهيم حنيفا».

ج «نحن نقص عليك احسن القصص بما اوحينا اليك هذا القرآن».

د ـ «ولا يأتونك بمثَل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا».

هـ ـ «ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين».

ثانيا: الدليل على الصورة الوضيئة النيرة للإسلام.

أ ـ «قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات الى النور بإذنه ويهديهم الى صراط مستقيم».

ب ـ «وكذلك اوحينا اليك روحا من امرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا».

2 ـ المقياس الثاني لكل عمل صالح ناجح، ولكل نهضة نافعة مباركة هو: مراعاة مصالح الأمة وتحقيقها وتكثيرها واستدامتها.

فالشريعة نزلت لتحقيق مصالح الناس، لأن الله جل ثناؤه غني عن الناس.

ولقد استفاضت كتب الفقه ـ عند المسلمين ـ بمفاهيم اعتبار المصالح، والحرص على تحقيقها.. ومما انتظمه فقه المسلمين من هذه المفاهيم والقواعد:

أ ـ «يعظم الأجر بقصد المصلحة العامة».

ب ـ «التصرف منوط بالمصلحة».

ج ـ «من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه»: والمعنى: ان من يتوسل بالوسائل غير المشروعة تعجلا منه للحصول على مقصوده، فإن الشرع عامله بضد مقصوده فأوجب حرمانه جزاء فعله واستعجاله.

د ـ «الشرع لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة او راجحة، ولا ينهى الا عما مفسدته خالصة او راجحة».

اذن، هذان مقياسان رئيسان لتقويم الافعال والتصرفات والمواقف والاقوال: مقياس الحرص على بقاء صورة الاسلام حسنة نيرة، دون مباشرة اي سبب يؤدي الى تشويهها.

ومقياس الحرص على مصالح الأمة حرصا يجتنب كل سبب يؤدي الى ما يفسدها، او يقللها او يعطلها.

وفي ضوء هذين المقياسين، يتبدى السؤال العقلاني المبدئي المصلحي: هل ما فعل في نيويويورك وواشنطن في الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) الماضي: يدخل في نطاق المحافظة على وضاءة صورة الإسلام، وفي دائرة الحرص على مصالح الامة (لا يعتمد هذا السؤال على نتائج التحقيق الجنائي فيما جرى، فهذه نتائج لما تظهر. وانما يعتمد السؤال على مقولات تفخر بما حدث وتؤصله وتزكيه)!! ان الجواب عن السؤال الآنف هو: النفي القاطع.

فما جرى لم يحافظ على صورة الإسلام نقية وضيئة، ولم يرع مصالح الأمة، بَلْه تكثيرها.

وهذا هو البرهان:

1 ـ تشويه صورة الإسلام فالوقائع على الأرض: في وسائل الاعلام والتثقيف، تشهد شهادة موثقة بأن ذلك الفعل قد فتح (ذريعة كبرى) للشرور والمفاسد في هذا المجال.. فتح ذريعة واسعة لتشويه صورة الإسلام على نطاق عالمي، وللقول المتتابع المتكرر:

أ ـ ان الاسلام دين عدواني. وهو قول يشوه حقيقة لا ريب فيها وهي: ان الإسلام دين سلام. ففي السنة توجيه ببذل السلام للعالم، وبأن يسديه المسلم لمن عرف، ولمن لم يعرف.

ب ـ ان الاسلام دين ارهاب وترويع وتخويف. وهو قول يشوه حقيقة ان الاسلام دين يوفر الأمن الشخصي لأشد الناس عداوة له وهم المشركون: «وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم ابلغه مأمنه».

ج ـ ان الاسلام دين غدر. وهو قول يشوه حقيقة ان الاسلام دين وفاء لا يغدر قط. فالغدر نقيض للسلوك الذي فرضه الاسلام على المسلم. فمن صفات المؤمنين: «والذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون».

د ـ ان الاسلام دين مدمر للعمران والحضارة. وهو قول يشوه حقيقة إسلامية جليلة: حقيقة ان الله استخلف الناس في الارض واستعمرهم فيها ليعمروها: «هو أنشأكم من الارض واستعمركم فيها». وحقيقة ان الاسلام يمنع هدم هذا العمران، والافساد في الارض: «ولا تفسد في الارض بعد اصلاحها».

هـ ـ ان القرآن: مصدر للعنف، واستباحة دماء الابرياء.. يصور هذا المفهوم: ما نشرته ـ مثلا ـ صحيفة امريكية: اذ نشرت صورة لأحد المتهمين بالارهاب، وفي يده مصحف.. وهذا اعلام يشوه حقيقة: ان الاسلام قد عدّ القتل لنفس انسانية واحدة قتلا للبشرية كلها: «من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا».. والمعنى العميق ـ ها هنا ـ هو: ان الانسان الفرد يمثل (النوع كله) من حيث احترام الحياة، والمحافظة عليها.

خلاصة هذه النقطة: ان ما فُعل في نيويورك وواشنطن تسبب ـ بلا ريب ـ في تشويه صورة الاسلام.. وبمقياس: ان خير الاعمال هو: الابقاء على صورة الاسلام حسنة نيرة. بهذا المقياس، يعد ذلك الفعل باطلا، وجناية تسببت في تشويه الرسالة الخاتمة التي ارتبطت بها مصائر الناس: احياء وامواتا.

واذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد حكم على التطويل الزائد في الصلاة المكتوبة بأنه (فتنة في الدين) وقال: «افتان انت يا معاذ»؟ وما ذاك الا لان التطويل على هذا النحو يوقع الناس في الحرج والمشقة، فيأخذون عن الاسلام ـ من ثم ـ صورة انه دين عسر وعنت، فينفرون منه فتكون فتنة، وهو سلوك يتناقض مع طبيعة منهج الاسلام في السماحة واليسر والرفق والاعتدال والرحمة.. اذا كان النبي حكم على ذلك السلوك بأنه فتنة وتشويه بصورة الاسلام، فكيف بفعل يفتح ذرائع التشويه كافة، وعلى صعيد العالم الذي ينبغي ان تُبلّغ اليه دعوة الاسلام كما ارادها الله ورسوله: جميلة بهية لا تشوبها شائبة من قول عقيم، او فعل تنفر منه النفوس نفورا شديدا وتاما؟.

2 ـ البرهان الثاني هو: ان ذلك الفعل تسبب في انزال افدح الضر والأذى بالأمة ومصالحها.. ومن ذلك: وضع المسلمين ـ في الجملة ـ موضع المشبوه المتهم .. ومراقبتهم ـ كإرهابيين!! في المطارات والطائرات.. وتعرضهم للخوف والأذى المعنوي والمادي.. وسن قوانين تصنف العرب والمسلمين في دائرة الاجرام، بهذه الطريقة او تلك.. وجعل المسلم السوي يشعر بالخزي مما جرى.. وتمكين الدوائر المعادية من العمل على مضاعفة خطط تشويه سمعة المسلمين.. الى غير ذلك من صور الضر والأذى والخسران التي لحقت بالمسلمين، في الغرب، وفي العالم كله، وفي العالم الاسلامي نفسه.

الا انها فتنة طامة باشرها او زكاها اناس من المسلمين (وفق كلامهم) فعمت المسلمين اجمعين، بل انعكست على دين الاسلام ذاته.. وهذه الفتنة مشاقة لله الذي قال: «واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة»، بل تعدتهم الى الامة كلها.. والكرب الأليم الذي تعيشه الامة العربية الاسلامية دليل على ذلك.. يقول ابن العربي: «واتقوا فتنة تتعدى الظالم فتصيب الصالح والطالح».

ومن هنا كان السكوت عمن يبتدر فتنة تضر بالاسلام والمسلمين، نوعا من التعاون على الاثم والعدوان. والله يقول «ولا تعاونوا على الاثم والعدوان».. يقول القرطبي ـ في تفسير هذه الآية ـ «ويجب الاعراض عن المتعدي، وترك النصر له، ورده عما هو عليه».. فالاسلام اولى بالحرص. والحفاظ على مصالح الامة اولى بالتقديم: «الا تفعلوه تكن فتنة في الارض وفساد كبير».