عصر الثورة...!

TT

لم يكن أحد ليصدق نبوءة عراف ليلة عيد الميلاد للعام الحالي 2011 أن الأحوال في العالم العربي سوف تصير إلى ما هي عليه. فما بدا بعد عاصفة الغزو الأميركي للعراق - الذي كان أكبر العواصف التي هبت على المنطقة خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين - أن تلك العاصفة لن تغير من الأمر شيئا. فالعراقيون في النهاية تصرفوا كعراقيين، فلا أحضروا ديمقراطية إلى المنطقة، ولا تصرفوا باختلاف كبير عن اللبنانيين. وفيما عدا ذلك فقد كان الفلسطينيون منقسمين كالعادة، ودول الخليج تتأرجح تفاؤلا وتشاؤما حسب أسعار النفط، ولكنها في كل الأحوال مطمئنة إلى أن المخزون حتى في أسوأ الأحوال يجعلهم على جانب الغنى. مصر على كثرة عددها كانت تسير في طريقها لا تتورط كثيرا فتثير انزعاجا، ولا تبتعد بعيدا فتصير وحشة، وسورية وليبيا في جمودهما المعتاد، وبقية المغرب لم يكن إلا امتدادا لما جرى في تسعينات القرن الماضي، والسودان كان يسير في طريقه المحتوم نحو الانقسام، ولكن لا شيء يقلب أمرا على عقب.

ولكن ثلاثة شهور من العام الجديد فعلت ذلك ولم تعد الأحوال كما كانت، وما بين غمضة عين وانتباهتها كانت تونس ومصر قد تغيرتا تماما، ومن بعدهما اشتعلت النيران في اليمن والبحرين، وامتد الشرار إلى المغرب والجزائر وعمان وسورية وحتى فلسطين جرت الثورة على الثوار وبات الشعب يطالب بإنهاء الانقسام. ليبيا جرت فيها حرب أهلية، وبينما تدخلت قوات درع الجزيرة في المنامة؛ فإن مجلس الأمن الدولي فرض حظرا جويا وتهديدا عسكريا بالتدخل بينما تحصن الثوار في مصراتة وبني غازي، جلس العقيد مع أبنائه وقواته في طرابلس منتظرا المرحلة القادمة من الحرب الأهلية أو مقاومة الضربات الجوية الغربية أو التوصل إلى حل يكفل له خروجا آمنا من الدولة أو من الحياة.

انقلبت المنطقة كما لم تنقلب منذ الثورة الناصرية وتوابعها القومية العربية، ومنذ الثورة الخومينية وتوابعها الإسلامية. والغريب أن التكيف الذي جرى مع الثورتين السابقتين، لا يوجد ما يجعله ممكنا هذه المرة لأن جوهر الثورة هذه المرة لا يدور حول آيديولوجية تدعي أنها الأفضل لأهل البلاد المعبرة عن طموحاتهم، كما لا تدور ببساطة حول سلطة تريد الحلول مكان سلطة أخرى.

وربما كان جزءا من عدم صفاء الرؤية هنا هو تصورنا أن التغييرات الجذرية الكبرى لا تحدث إلا من خلال ثورات كبرى مثل الثورات الفرنسية والبلشفية والصينية والإيرانية، أو من خلال الانقلابات التي كثيرا ما تقلب بلادا رأسا على عقب مثل ما تم في 23 يوليو (تموز) 1952 في مصر، حيث قاد الانقلاب إلى ما هو قريب من الثورة من حيث تغيير الأوضاع في المجتمع فاستدعى الأمر التحول من دستور 1923 إلى دستور 1956 الذي صار هاديا لكل دساتير «الثورة» فيما بعد.

ولكن الثورة في التاريخ الإنساني لم تقتصر على هذا الشكل من التغيير، بل إن أغلب الثورات حدثت من خلال تغييرات هادئة تراكمت عبر السنوات لتخلق أوضاعا تستدعي تغيرات عميقة في البناء القانوني في البلاد. وبشكل عام فإن الثورة الصناعية الأولى، والثورات الصناعية التالية قادت كلها إلى تغييرات قانونية ودستورية عميقة، وفرض ديغول دستورا للجمهورية الفرنسية الخامسة عام 1958 لأن كافة الدساتير السابقة فشلت في حماية البلاد واستقرارها.

والحقيقة أن مصر - على سبيل المثال - شهدت ثورة أو تغييرات جوهرية خلال سنوات الربع قرن الأخير بفعل أمور طبيعية أو سياسات حكومية قادت كلها إلى تغييرات جوهرية في البلاد. ولا يمكن القول إن شعبا قدره 42 مليونا يماثل من حيث الإدارة شعبا قدره 86 مليونا ثلثاه من الشباب، خاصة لو كان تعليم هذا الشعب قد زاد من 40% من عدد السكان إلى 72%، وطال عمره المتوقع عند الميلاد بمقدار 15 عاما، أي من 57 سنة إلى 72 سنة، وارتفع متوسط دخله من 300 دولار إلى 2170 دولارا أي قرابة سبعة أمثال ما كان عليه الوضع في عام 1980. وما لا يقل أهمية عن ذلك كله أن شعبا يعيش على الزراعة في 3% من وادي النيل كما كان الحال من قبل؛ يختلف عن شعب يعيش الآن على قرابة 7% من مساحة مصر كلها بين شواطئ البحار والخلجان والصحراوات ويقوم اقتصاده على الخدمات والصناعة. وكما أن شعبا يعيش على ثلاث صحف شبه رسمية وقناتان للتلفزيون وحفنة قليلة من الإذاعات يختلف كثيرا عن شعب يعتمد على ما لا يقل عن 700 محطة تلفزيونية ناطقة بالعربية ومئات الإذاعات و600 صحيفة ومجلة مصرية ونوافذ لا تحد على العالم كله من خلال الإنترنت الذي لم يعد فقط رسائل ولكن «تويتر» و«فيس بوك» وأشياء أخرى كثيرة.

هذه الثورة في حياة المصريين جرت من خلال سياسات حكومية ومن خلال تغيرات في الأوضاع الدولية والعالمية والتكنولوجية وبزوغ الثورة الصناعية الثالثة وحتى أوضاع الشرق الأوسط كله تغيرت، وخلق كل ذلك ثقافة إقليمية وعالمية جديدة تقوم على الديمقراطية واقتصاد السوق وفلسفة تقوم على الحرية والاختيار وليس على الدولة وسموها وحكمتها التي لا تحد. كل هذه التغيرات الجوهرية تحتاج بدورها إلى تغييرات جوهرية في فلسفة الدولة ومفاهيمها الأساسية التي تقوم عليها ولا يزال الجيل الحاكم متشبثا بها.

هذه المتغيرات جميعا لا تقتصر على مصر وحدها بل هي شائعة في كل الدول العربية التي جرت فيها تنمية بشكل أو آخر زادت من حجم الطبقة الوسطى، ومع التحسن في الظروف الصحية زاد حجم الشباب في التركيبة السكانية، ولم تترك الثورة التكنولوجية قرية إلا ووصلت إليها وجذبت شبابها إلى عوالم أخرى فيها قدر غير قليل من المثالية. وإذا اختلط ذلك كله بأنظمة حكم ظلت على حالها لسنوات طويلة، وازدهر في أراضيها التمييز الديني أو العرقي أو المذهبي، وشعر هؤلاء الشباب أن المسافة بينهم وبين العالم لا تزيد عن نقرة إصبع، فإن الثورة تصير على الأبواب. وربما يكون العون الأول لهذه الثورات الجارية الصنع التصور الذي يسود بين النخب الحاكمة أن الناس يثورون لأنهم فقراء أو لأنهم لا يجدون عملا لأن ذلك أبعد ما يكون عن الحقيقة، فمعظم الثوار الذين عرفناهم ليسوا فقراء بل موسرون، وكلهم يعملون وفي أعمال عالية الأجر. الفقراء والذين لا يعملون يأتون بعد ذلك في ذيل الثورة ولكنها تكون قد قامت ومدت جذورها. إنه عصر ثورة جديد يختلف عن كل ما عرفناه من قبل.