ميدان التحرير أم ميدان الواقع؟!

TT

خرج ملايين المصريين إلى مراكز الاقتراع للاستفتاء حول التعديلات الدستورية، وفي الوقت الذي اعتبر فيه قطاع عريض من شباب الثورة الاستفتاء على الدستور «القديم» استمرارا للنظام الذي يطالبون بالثورة عليه، وقيامهم بتنظيم حملة كبيرة بعنوان «لأه» للمطالبة برفض التعديلات وكتابة دستور جديد، فإن قرابة 77 في المائة من الناخبين الذين صوتوا قالوا «نعم» لاستمرار الدستور «القديم»، فهل خسر شباب ميدان التحرير؟!

لقد قيل لنا طوال الأسابيع الماضية إن العالم العربي تغير، وإن شباب «الفيس بوك» الذين يقودون مظاهرات التغيير غير معنيين بالخلافات الآيديولوجية أو بالـ«الفزاعات» التي يرفعها النظام كجماعة «الإخوان»، أو الإرهاب، أو الخطر الإيراني، أو الفوضى الأمنية، وغيرها من القضايا التي امتلأ بها إعلام «النظام»، الذي تحول بدوره إلى إعلام «الثورة» ببقاء كثير من الوجوه والأقلام. ما هو أكثر جدلا، هو أن الخطاب الثقافي العربي - الذي ساند الثورات «الشبابية» - كان يعدنا بأننا أمام فجر جديد يحدد فيه الشباب مستقبل البلاد والمنطقة، ولكن ما شاهدناه حتى الآن هو أن الشباب - أو على الأقل رموزهم التي احتفل بها الإعلام - خسروا أول اختبار ديمقراطي. اليوم لم يعد بوسع الشباب أن يتهموا النظام بتزوير الانتخابات، أو سرقة حقهم السياسي، فالأغلبية المصرية رفضت استدامة الأزمة، وحالة الفوضى الأمنية والاقتصادية، ووافقت على تعديل الدستور «القديم» بكل نواقصه. جريدة «الفاينانشيال تايمز» قالت (21 مارس «آذار»): «نتائج الاستفتاء الأخيرة تثبت أن أغلبية المصريين يدعمون الإصلاحات التي أطلقها الجيش»، وعليه، فإن شباب التحرير الذين ظلوا متخوفين حينا، أو متشككين حينا آخر، لا يسعهم فرض إرادتهم - أو قل ضغوطهم - على المجلس العسكري، بعد أن كشف الاستفتاء عن رغبة شعبية في الإسراع بالعملية الانتقالية، ورفض لأي محاولة للتأخير بدعوى أن هناك «ثورة مضادة» يمارسها الجيش، أو فلول النظام القديم، أو «الإخوان» على ثورة الشباب.

في ندوة مغلقة شارك فيها نخبة من علماء السياسة والاجتماع في إحدى الدول الأوروبية هذا الأسبوع، استضاف المنظمون عبر الإنترنت عددا من «المدونين»، و«الناشطين» الذين أعدوا لمظاهرات 25 يناير (كانون الثاني) وتم طرح مجموعة من الأسئلة عليهم، لعلي أوجز هنا أهمها:

- هل تعتبرون ما حدث في مصر، وما يحدث في عموم العالم العربي، ثورة ستغير معالم المجتمع والمواطنة؟

- إلى أي شيء تعزون نتائج ما حدث: تغير في البنية الاجتماعية، أم انبعاث لأفكار جديدة، أم مجرد صدام أمني كشف عن ضعف النظام؟

- في حال صوت المصريون للتعديلات الدستورية التي ترفضونها، هل ستعودون للاحتجاج في ميدان التحرير؟

كانت إجابات المدونين متناقضة، وفي حين تحدثوا عن شعارات كثيرة كالديمقراطية، وحرية التعبير، وحقوق الإنسان، وكرامة المواطن، والقضاء على الفساد، والتعذيب.. إلخ، فإن الرؤية التي عبروا عنها كانت أقرب إلى يوتوبيا «المدينة الفاضلة» منها إلى واقع المجتمع المصري وتحدياته على الأرض. لقد قال أحد المشاركين من مصر بأنهم سيواصلون التظاهر في ميدان التحرير حتى ولو خسروا التصويت على الاستفتاء، وعندها علق أحد الأساتذة قائلا إن على الشباب العربي أن يتعلم تقبل نتائج صناديق الاقتراع، وإن التغيير عبر الثورة لا يمكن أن يحدث في كل يوم وأمام كل قضية، عليهم أن يتعلموا أن التغيير يبدأ من داخل المجتمع لا عبر فرض الوصاية عليه تحت أي مسمى.

في بلد يعاني من الفقر، وتواضع الأداء الاقتصادي، وقلة مصادر الدخل، فإن أحداث الشهرين الأخيرين قد روعت فئات من المجتمع المصري، حين انعدم الأمن، وتعطلت المؤسسات، والمتاجر والخدمات، حتى وصلت الحياة الاجتماعية والسياسية إلى مرحلة الشلل التام. لقد رأينا عددا من مثقفي مصر وفنانيها ومشاهيرها متألمين - أو يبكون - على شاشات القنوات الفضائية، وخرج الناس مذعورين بما تحمله أيديهم للدفاع عن بيوتهم وأرواحهم. قد يقول قائل بأن ذلك أمر مدبر. حسنا، النتيجة واحدة، وهي أن الدولة المصرية المدنية انهارت لأول مرة في تاريخها الحديث في لحظة صدام درامي غير مسبوق.

الدرس الذي يجب أن يتعلمه الشباب، ودعاة الثورة المستمرة، هو أن الدولة لا يمكن بناؤها أو تنميتها بالأقوال والشعارات فقط، وأن الاختلافات، حتى السياسية، جزء من طبيعة المجتمع، وأن التغيير يكون في التأثير الإيجابي في المجتمع، واستيعاب أن مشكلات الدولة والمجتمع لا تحل عبر إنكارها، أو القفز عليها، بل عن طريق مواجهتها بحلول واقعية. الشفاء يبدأ حين يدرك الشباب أن حدود قدرات الدولة، وأمراض المجتمع ومشكلاته الدينية والسياسية والاقتصادية ليست كلها من صنع النظام السابق، بل كثير منها قضايا حقيقية، وواقعية.

يجب أن يعي شباب التحرير أنهم جزء من المجتمع لا كله، وأنهم في نهاية المطاف جزء من الحل لا أغلبه. إن بعض الآراء والأفكار التي يعبرون عنها مهمة ومؤثرة، ولكن دورهم محدود بقدرتهم على التعاطي مع الواقع، وأنهم ليسوا بالضرورة يملكون الحقيقة المطلقة. هم بشر يخطئون ويصيبون كغيرهم. وعليه فإن ما قاموا به من المطالبة بالإصلاح، ومحاسبة الدولة، وتصحيح ممارسات الأجهزة الحكومية، والدعوة إلى تفعيل الديمقراطية، وصيانة حقوق الإنسان هو جهد سامٍ، ولكن عليهم أيضا أن يدركوا بأن ما قاموا به نتج عنه ضحايا بشرية، وخسائر مادية لا تقدر، وانتهاكات مستمرة حتى اليوم، وانقسام اجتماعي خطير. لا يمكنك أن تدعي عدم مسؤوليتك عما حدث من خسائر، لقد اخترت أن يسقط من الضحايا الكثير لكي تحقق ما تريد، ولكن الخلاص في أن تدرك أنك أخطأت بعض الشيء كما أصبت، وأن تعي في النهاية أنك جزء من الحل لا كله.

في الوقت الراهن، يساق إلى الشارع آلاف الشباب العرب في دول مختلفة تحت دعوى «إسقاط النظام»، من ليبيا، مرورا بسورية، والجزائر، والبحرين، والمغرب، والأردن، وانتهاء باليمن الذي يوشك أن تتفكك فيه الدولة قبل أن يسقط النظام. على الشباب أن يدركوا أن الدعوة إلى «إسقاط النظام» ليست بالضرورة هي الحل، لأن مشكلات الدولة والمجتمع لا يمكن تلخيصها كلها في النظام، ثم إن الأنظمة تتفاوت في قدرتها على الاستجابة لشروط الإصلاح والتغيير السياسي. لقد أطال بعض الرؤساء العرب الجلوس على الكراسي، وامتنعوا عن تقديم الإصلاحات اللازمة في وقتها، ولهذا فإن استقرار الدولة وشرعيتها كمؤسسة مدنية جامعة باتا في مهب الريح. الأنظمة العربية لم تكن شرا مطلقا، كان في بعضها خير وشر، واختلطت فيها النيات الحسنة بالسيئة، ومارست فيها الأنظمة صنوفا من الفساد والظلم والعدوان، ولكن بعض هذه الأنظمة قدم في فترات زمنية جملة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والقضائية التي لا يمكن إنكارها.

الزلزال السياسي الذي نمر به ما زال مستمرا، ولن يتسنى لنا أن نقيم نتائج ما يحدث إلا بعد مرور الوقت الكافي، ولكن ما يمكن التأكيد عليه أن المرحلة تتطلب الكثير من الحكمة والحذر، وقدرا هائلا من التسامح لأن دعاة التغيير الذين يتحولون إلى جلد جلادي الماضي يصبحون مثلهم. حينما لا تستطيع التفريق بين ميدان التحرير وميدان الواقع فإن عليك أن تفكر جيدا وتختار ما بين العيش في عالم الوهم أو عالم الواقع.

* أقترح استعمال النافذة التالية: «يجب أن يعي شباب التحرير أنهم جزء من المجتمع لا كله، وجزء من الحل لا أغلبه»