حالة اسمها «زنقة زنقة»

TT

يسيطر علينا كثير من الاندهاش وعدم التصديق وأحيانا كثيرة الضحك ونحن نستمع إلى خطابات وآراء العقيد الليبي معمر القذافي. لكن هذه الحال ليست مقتصرة ربما على الرجل وحده، إذ إن الاثنين وأربعين عاما التي كرّس خلالها العقيد سلطته وسطوته قد أنتجت فيما أنتجت وعيا عاما بائسا. من الظلم الفادح القول إن هذا الوعي يطال الليبيين جميعا لكنه حتما يطال على الأقل أولئك الذين حال بطش الرجل دون طموحاتهم ودون اتساع آفاقهم إلى ما هو أبعد من حدود «الكتاب الأخضر» وملهمه القذافي.

ليس أدل على ذلك مما انتشر في المواقع الإلكترونية نقلا عن التلفزيون الليبي من اجتهاد لمذيعة ليبية اعتبرت فيه أن تبني قرار مجلس الأمن القاضي بفرض حظر جوي على ليبيا محرم شرعا لأن التبني في الإسلام حرام..

هذه ليست طرفة من الطرف التي شاعت في ظل الثورات.

إنها حقيقة.

لم تبد المذيعة وهي تتلو فتواها تلك تبتسم أو تضحك بل كانت تتحدث بجدية وبهدوء وهي لم تبال حين انقطع الاتصال مع القانوني الذي كان يفترض أن يعلق على قولها بأن تبني قرار مجلس الأمن محرم شرعا بل أنهت جملتها تلك بموقف حاسم «مش مشكلة، القرار محرّم ولو ضمنيا»..

بدا حال تلك المذيعة تماما كحال القذافي حين يقول أكثر الأمور غرابة وإثارة للضحك وهو متجهم يحاول الإيحاء بأنه في ذروة جديته. مقاطع كلمته الشهيرة التي باتت أغنية يرقص عليها شبان وشابات «زنقة زنقة» هي في الأصل خطاب كان يفترض أنه خطاب مواجهة ومغرق في الجدية والتحدّي والعنفوان لكنه انتهى ليكون أكثر الخطابات تهريجا وسخرية.. لكنّ السخرية هذه ليست الوجه الوحيد الذي يصلنا عبر الخطاب والموقف الرسمي الليبي. فهذا الخطاب كرّس ثنائية عمادها الهزل والموت..

يدعو القذافي الصحافة العالمية للمجيء إلى ليبيا ورؤية المحتفلين و«الملايين» الذين يدافعون عنه وتعتقل قواته مراسلين وصحافيين عربا وأجانب وتقتل مصورين..

ليس التعامل مع الواقع الليبي الراهن بالفسحة بالنسبة إلى أي إعلامي أو صحافي، وما الروايات التي نقلها مراسلو قناة «بي بي سي» عن الضرب الذي تعرضوا له وتنفيذ حكم الإعدام رمزيا بهم على يد رجال النظام قبل إطلاق سراحهم سوى عينة بدت ذروتها مع قتل صحافيين آخرين من بينهم مصور في قناة «الجزيرة»..

لطالما دأبنا على إنشاء علاقة بين القسوة والاستبداد والظلم والموت. هذه العلاقة تغذّى منها خيالنا وأنشأ صورا ومشاهد وأفكارا. اليوم ثمّة عنصر غريب كل الغرابة عن الموت أدخله القذافي في هذه المعادلة. إنه الهزال ولكن كيف يمكن أن تستقيم في وعينا علاقة بين هذين العنصرين غير المنسجمين. ذاك أن إنجازنا هذه المهمة قد يوقعنا في سقطات أخلاقية تتمثل في استخفافنا بالضحايا عبر الضحك على الجلاد..

«زنقة زنقة» خطاب بات أغنية تضحكنا وتدفعنا إلى الرقص متناسين أنه خطاب موت وقتل قبل أي شيء آخر..

diana@ asharqalawsat.com