زنقة فرانكفورت

TT

في برلين معرضان، أو «متحفان»: الأول لآثار وبقايا جهاز «شتازي» المرعب في ألمانيا الشرقية، والثاني، لآثار المرحلة النازية وخطابها السياسي. مرحلتان أصبحتا من الماضي. فلا يمكن لإنسان أن يتخيل أنه من الممكن بعد اليوم بروز هتلر آخر في ألمانيا، ولا يمكن أن يتخيل ألمانيا تسمح بوجود نظام أمني مجنون مثل «شتازي».

سواء كان من يحرق ملفات أمن الدولة في مصر «فلول النظام القديم» أو رجالا من أهل 25 يناير، فإنه لا عودة إلى عبادة الأمن وجعله قبل القانون وقبل الإنسان، وتحويله ذريعة لسلب كرامة البشر، أول ما فعله أهل بنغازي هو إحراق أقبية القذافي. وأول ما فعله أهل تونس هو مطاردة رموز الأمن السابق. لا دول ولا شعوب ولا أوطان من دون أمن. ولا ازدهار ولا استقرار ولا طمأنينة من دون أمن. لكن لا أمن خارج القانون.

ثمة مرحلة في العالم العربي تبحث عن متاحف: المرحلة الفاشية، القائمة على الهياج الدائم والخطب العاصفة و«الثورة المستمرة» القائمة فقط على استمرار الظلم والفراغ وتبديد الزمن والثروة، ومرحلة تحويل الناس إلى رهائن دائمة ومخلوقات خائفة. انتهت المرحلة التي يعامل فيها المواطن كعدو وخائن ومشبوه دائم، مهما ثبت العكس. اخترنا في الماضي أن ننقل عن ألمانيا المرحلة الفاشية التي أدت إلى دمارها وهزيمتها، ومرحلة «الشتازي» التي أدت إلى انهيار الشيوعية. ومن المناسب للآتين إلى الحكم الآن، القيام بزيارة سريعة «لمتحف التاريخ الألماني» ولمتحف «شتازي» الدائم في «فرانكفورتر آلي» وترجمتها، دون مزاح، زقاق، أو زنقة، فرانكفورت، حيث كان مقر «الشتازي» السابق في شرق برلين.

تتعلم ألمانيا من كوارثها. ذهب هتلر ينتهك حرمات أوروبا وسلامها، وطفق جنوده يذلون أهلها ونساءها. وعندما ارتد الحلفاء على برلين وحولوها إلى رماد لم يتركوا حرمة أو كرامة بشرية. وكان جهاز «الشتازي» يجند الأبناء ضد آبائهم والزوجات ضد أزواجهن والجنود ضد ضباطهم. ويبدو المتحف اليوم مضحكا وسخيفا، لكنه لم يكن كذلك طوال 44 عاما، من عمر الألمان.

بعد هزيمة ألمانيا أخذت أميركا العلماء الألمان وأخذ العالم العربي خبراء التعذيب. ومن حسن الصدف أننا أرسلنا إليها عددا وافرا من طالبي العلم أيضا، وعاد إلينا منهم، على سبيل المثال الدكتور فاروق الباز، الذي كان بين أبرز الوجوه التي نزلت إلى ميدان التحرير، تعطي المشورة والبركة. وكم كان مطمئنا الإصغاء إلى صوت مثل صوته، وسط تكاثر الأصوات وتداخلها. ولم تكن له فقط نبرة العلم، بل خصوصا نبرة الطيبة والصدق.