المجمع الفقهي السعودي لماذا؟ وما علاقته بـ«الإصلاح»؟!

TT

قد يسارع سائل إلى طرح السؤال التالي - استنكارا أو استفادة - : ما علاقة إنشاء مجمع فقهي إسلامي في السعودية بالإصلاح المنشود؟ ولماذا ورد الأمر بإنشائه ضمن مجموعة أوامر تتعلق بمعايش الناس ودخولهم ومساكنهم وصحتهم الخ؟ والجواب سؤال آخر - يمهد للإجابة الموضوعية عن السؤالين كليهما - وهو: على أي أسس قامت هذه الدولة، المملكة العربية السعودية؟ قامت - بادئ ذي بدء - على الإسلام: كتابا وسنة.. وعقيدة وشريعة.. هنا واقع تاريخي تشريعي سياسي اجتماعي لا يختلف فيه الناس: قريبهم وبعيدهم، صديقهم وعدوهم، وإن اختلفوا في «قضية التطبيق» التي سنعرض لها في قابل السطور ابتغاء تحريرها من غلو الشانئ، ومن غلو الصديق.

إن دولة تتأسس على الإسلام مبدئيا، يقتضي المنطق البديهي العملي أن يكون للعلماء بالإسلام دور فيها، وأن يكون الفقه الإسلامي - بمفهومه التجديدي الواسع - راسما لخريطتها وحركتها وأدائها وعلاقاتها، في غير جمود يعطل المصالح، ولا تفلت يوهي العلاقة بالأسس الراسخة.. وبمقتضى ذلك، كان لا بد من أن تمس يد الإصلاح هذا النبع المهم: مصدرا وانتفاعا. ولذا كان المقصد من إنشاء المجمع هو «أن يكون ملتقى علميا تناقش فيه القضايا والمسائل الفقهية تحت إشراف هيئة كبار العلماء بحيث يتم من خلاله استقطاب العديد من الكفاءات الشرعية المؤهلة، وإتاحة الفرصة لهم لتقديم أطروحاتهم العلمية ومناقشتها، وإبداء الرأي حيالها بقرارات علمية رصينة، تراعي ثوابتنا الشرعية في أفق المبادئ العلمية، والأسس المنهجية لهيئة كبار العلماء، بما يتيح مستقبلا اختيار المبرزين من بينهم لمناصب علمية أعلى..».. فهذا مجمع فقهي له وظيفتان أو مقصدان رئيسان:

1) مقصد تخصيب مناخ الاجتهاد الفقهي وفرصه بالمناقشات العلمية الحرة الموسعة، وهو مقصد إذ توجب إعماله قواعد الشريعة علميا، توجبه - عمليا - حاجات متزايدة على كل صعيد. فعلى الصعيد الوطني أو المحلي تتزاحم المشكلات والقضايا الناشئة عن التطورات المتسارعة، أي الناشئة عن التقدم العلمي والتقني البالغ السرعة والمباغتة، والناشئة عن التداخل الشديد والتشابك الوثيق بين البشر أجمعين على كل هذا الكوكب.. ثم إن العالم من حولنا دائب الحركة والنشاط والإبداع. ينتج - على مدار الساعة أو اليوم - فكرا قانونيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا متنوعا، وهو فكر يزاحمنا على أصالتنا الفكرية واستقلالنا التشريعي.. وبديهي أنه ليس يجدي الاكتفاء بـ«النهي عن المنكر» ها هنا. بل يتوجب «الأمر بالمعروف». وهذا الأمر بالمعروف ليس جملة مختصرة تقال. فهذا موقف لا تبرأ به الذمة، والحالة هذه، إنما الأمر بالمعروف المطلوب - في واقع الأمر وحقيقته - هو «دليل عمل» فقهي مفصل ومبدع، يدل الناس على كيف يعملون؟.. لا ريب أن للفقه التجديدي وظيفته الحاسمة في رسم هذا الدليل وصياغته: باسم الله جل ثناؤه.

2) المقصد الثاني لهذا المجمع هو «تكثير» العلماء الفقهاء المجتهدين؛ تكثيرهم كما، والتسامي بقدراتهم نوعا من خلال مزيد من المناقشات والمدارسات والاستدراكات، ولا سيما أن فرص الاجتهاد ووسائله قد تكاثرت في هذه العصور، كما لحظ ذلك الإمام الشوكاني الذي يقول بوضوح شديد: «ولا يخفى على من له أدنى فهم أن الاجتهاد وقد يسره الله عز وجل للمتأخرين تيسيرا لم يكن للسابقين، لأن التفاسير للكتاب العزيز قد دونت وصارت في الكثرة في حد لا يمكن حصره. والسنة المطهرة قد دونت وتكلم الأئمة على التجريح والتصحيح والترجيح بما هو زيادة على ما يحتاج إليه المجتهد. فالاجتهاد على المتأخرين أيسر وأسهل من الاجتهاد على المتقدمين، ولا يخالف في هذا من له فهم صحيح وعقل سوي».

وينبثق من هذين المقصدين: موجبات اجتهاد عديدة، في طليعتها:

أ) موجب رفع الحرج عن الناس - مجتمعا ودولة -، ذلك أن من مقاصد الإسلام العظمى رفع الحرج عن المسلمين، فالمجتمع المسلم لا يمكن أن يترك سدى. لأن الله تعالى لم يأذن بذلك ولم يرده، ولم يشرعه بالتالي. بل أنزل لهذه الأمة هدى مبينا انتظمه الكتاب والسنة، بيد أن هذا الهدى يتطلب - في كل عصر وبيئة - تفصيلا في العديد من المجالات والحقول. فإذا غاب التفصيل أو تأخر عن وقت الحاجة، فليس أمام المسلمين عندئذ إلا أحد طريقين، طريق الخبط في الحياة بغير هدى. وطريق الوقوع في الحرج. وفي الحالين يتحمل أولو العلم قدرا مرعبا من التسبب في ذلك كله.

ب) الموجب الثاني: هو المبادأة والمبادرة أو «السبق» إلى دراسة الاحتمالات والتوقعات المستقبلة، دراسة مقترنة برؤى جليّة للبدائل والحلول. وهنا تتبدى قيمة «الخيال العلمي»، أي المعتمد على فروض منطقية معتبرة. فالخيال العلمي يطرق آفاقا لم تطرق.. إن تخيُّل الاحتمالات والتوقعات منزع موجود في الفقه الإسلامي. وبتجريد هذا المنزع من الغلو والخيالات المضحكة أو المتنطعة، يظل المضمون المتقبل من هذا المنزع نهجا صائبا ومجديا ينبغي الاستمساك به وإحياؤه واستصحابه.. وفي فنون «الدراسات المستقبلة» في عصرنا هذا ما يعين هذا المنزع على النضج والاستواء.

حصحص الحق، واستبانت العلاقة الوثيقة - المبدئية والوظيفية - بين الإصلاح وبين إنشاء مجمع فقهي في السعودية.

ولنعد الآن إلى قضية أشير إليها منذ ثوان «قضية تطبيق الإسلام» في السعودية، وهي قضية نشأت عن سؤال سابق هو: على أي أساس قامت المملكة العربية السعودية؟ فكان الجواب أنها قامت - بادئ ذي بدء - على الإسلام: عقيدة وشريعة. وقلنا: إن هذه مسألة متفق عليها، لكن الخلاف ينشأ حول التطبيق.

والحق أنه قد زاغ في هذه القضية - قضية التطبيق - طرفان نقيضان: طرف ينزع «الصفة الإسلامية» عن هذه الدولة بسبب أخطاء في التطبيق. وهذا الطرف هم الغلاة التكفيريون. لا شك أن هذا تصور أو حكم موغل في البطلان، لأن التكفير بالأخطاء أو الذنوب أو الكبائر موقف باطل وقفه الخوارج والمعتزلة، وأئمة المسلمين الكبار، وجماهير المسلمين على غير ذلك بالتوكيد.

أما الطرف الثاني النقيض، فهو الذي يصور النظام السعودي وكأنه «الخلافة الراشدة».. وهذا غلو مركب بلا ريب.

نعم. إنه غلو، إذ ينقصه العلم والأمانة والحصافة والورع من جانب، فإنه - من جانب آخر - يؤذي النظام نفسه إيذاء شديدا.

كيف؟

إن تصوير النظام في هذه الصورة «المثالية» يحدث فجوة ذهنية كبيرة بين الواقع والمثال.. وهذه الفجوة تحدث هزة نفسية في الناس يستغلها المرجفون الغلاة في تصوير الدولة في صورة سلبية سوداء، وذلك بالمقارنة بين الواقع الموضوعي القائم، وبين الصورة المثالية التي قال بها الغلاة الآخرون (صورة الدولة الملائكية) أو الراشدية.

وبإسقاط رؤى هذين الطرفين الغاليين المتناقضين يمكن القول - بعقل وأمانة - إن السعودية قامت على أسس إسلامية صحيحة، وإنها لا تزال متمسكة بهذه الأسس المودعة - بالتفصيل - في النظام الأساسي للحكم، وإنه مما لا ريب فيه أن أخطاء عديدة وقعت ولا تزال تقع أثناء التطبيق، وإن الخطأ في التطبيق لا يلغي - قط - «المبدئية الإسلامية» للدولة، وإن المهم - من قبل ومن بعد - أن يظل المعيار قائما، والمنار باقيا لأجل تقويم المسيرة ونقدها والاستدراك عليها بصفة دورية، ابتعادا عن الأخطاء والخطايا، وفق الاستطاعة، واقترابا من الصلاح المستطاع، وفق الاستطاعة أيضا.