الحمل الكاذب

TT

على رسلكم في امتداح الثورات العربية أو ما سميتموه ذلك، فالأمور بخواتيمها. فهناك توقعات وضعها بعض المتشوقين للحرية، وقد كانت وما زالت ضيقة في بلادنا، إلا أن النتائج قد لا تكون متوافقة مع التوقعات، بل معاكسة لها وكارثية في بعض المناطق، أقرب ما تكون إلى حمل كاذب ويصبح الحراك متحولا من انتفاضة شعبية إلى انتفاضة عصبية. التوصيفات لما حدث ويحدث حولنا متعاكسة ومتناقضة، فهناك عدد من الأوهام التي تحيط بما يحدث من اضطراب عربي كبير، إلا أن الرغبة الدفينة في التغيير، بصرف النظر عن أية نتائج، يبدو هو المطلوب. لذلك كثير منا يختبئ وراء رغباته ويرسم الصورة كما تحلو له، وأرى أن الشجاعة هي في مناقشة المسكوت عنه حتى لو كان على عكس رغبة الحالمين، وائذنوا لي أن أفعل ذلك.

مثلا قيل الكثير حول دور الشباب في ما نراه، إلا أن ما لم يُقَل في هذا الموضوع هو دور الكتلة الحرجة في المجتمع، فلولا موقف تلك الكتلة الحرجة لما تحقق أي تغيير، وهو تغيير على السطح على كل حال حتى الآن. وبالمناسبة نحن المشتغلون في علوم الاجتماع نرى أن «التغيير» مفهوم محايد، قد يكون إلى الأفضل، وقد يكون إلى الأسوأ. الكتلة الحرجة التي أعنيها، في كل من تونس ومصر، كانت الجيش، ودوافع الموقف مختلفة إلا أن السلوك متشابه لكل منهما. وقف الجيش أمام المظاهرات المتسعة الرافضة للوضع القائم موقف المتفرج أولا، ثم موقف الموافق دون إعلان ثانيا، حتى تعقدت الأمور فأعلن عن موقف يرجح ولا يحسم. أماكن أخرى حاولت استنساخ ما يحدث، كانت الكتلة الحرجة في مكان آخر سواء كانت قوى الجيش أو قطاعات واسعة من الشعب. حدث ذلك في اليمن، ولكن الأكثر وضوحا في البحرين حيث ظهر أن المطالب متطرفة ووراءها أجندة ترمي إلى ولاية الفقيه، خصوصا بعد إعلان الجمهورية الإسلامية ورفع علمها ذي الاثني عشر مثلثا، وتدخل سافر من حزب الله اللبناني، فتحولت الكتلة الحرجة وجزء كبير من الشعب ضد تلك الشعارات، بل أدت إلى شق الصف الوطني.

قيل الكثير تفسيرا لما يحدث عن دور وسائل الاتصال الاجتماعية الحديثة، وهي لم تلعب نفس الدور في أماكن كثيرة، والدليل هو ما حصل في روسيا البيضاء عندما نودي - من خلال تلك الوسائل - بعصيان للإطاحة بألكسندر لوكانشكو 2006، فشل التجمع الضخم في تحقيق الأهداف المعلنة، وهو الإطاحة بالنظام، بسبب ظروف ذلك المجتمع، كما فشلت الثورة الخضراء في إيران 2009 بسبب ظروف أخرى، ولم تستطع القمصان الحمراء في تايلاند 2010 في تحقيق انتصار، وكل تلك الانتفاضات استخدمت وسائل الاتصال الاجتماعية الحديثة للحشد، ولكن الدليل الأهم والملموس أنها - أي وسائل الاتصال ودور الشباب - فشلت في إقناع المصريين بقول «لا» في الاستفتاء الأخير، على الرغم من الدعوة الواسعة على الإنترنت وبين الشباب التي دعت بأن يقول الناخب المصري «لا»، فقد قال «نعم» للتعديلات! هذا يعني أن دور وسائل الاتصال الاجتماعي - بحد ذاتها - ليس لها نفس النتائج.

قيل أيضا - تفسيرا لما يحدث - إن حركات المطالبة بالتغيير غير متأثرة بالخارج كليا. هو قول غير دقيق على الأقل، فقد كان لمواقف وتصريحات واشنطن تأثير النفخ في الأشياء. فإن هي أيدت تحت كلمات وتصريحات مختلفة، ازدادت النار اشتعالا، وإن هي سحبت التأييد - ولو بتصريحات ملتبسة - خفت شعلة النار وبقي الرماد. إنه التأثير النفسي وأيضا التاريخي للموقف الأميركي، فكل في المعارضة وفي الأنظمة يراقب ما تقوله واشنطن. استفادت هي بهذا العامل النفسي التاريخي كي تحول الأمور إلى هذا الاتجاه أو ذلك حسب مصالحها، بل ويدخل كاتب مثل توماس فريدمان في مقال في «نيويورك تايمز» على الخط، ليجيّر ما حدث، كونه نتيجة منطقية بتأثر العرب بانتخاب رجل أسود إلى سدة الحكم في أميركا! وأيضا تأثروا بإسرائيل، حيث قدمت رئيس الجمهورية إلى المحاكمة بتهمة التحرش الجنسي! ويذهب مستغرقا في خياله إلى أن ما رآه العرب من هذه الظواهر هو ما دفعهم إلى «الثورة»!

رغم سذاجة ذلك التحليل فإن هناك شبهة تأثير في التصريحات الأميركية تجاه كل حدث، جعل البعض، بسبب موروث تاريخي، يؤمن أو يشيع أن «أميركا تريد ذلك». وقبل أن أترك موقف الغرب الملتبس أدعوكم أن تنظروا إلى ما يحدث في ليبيا. على الرغم من اقتناعي بعبث بقاء «القائد شبه المعتوه» في التحكم بمقدرات الشعب الليبي، فإن موقف الغرب ملتبس، مما اضطره إلى التدخل بالقوة العسكرية بعد تردد، ولا يعرف أحد اليوم أي نتيجة أو نتائج قد تتمخض عن ذلك، فتجربتنا - على الأقل في نصف القرن الماضي - تقودنا إلى القول إن التدخل الغربي في الغالب قد يؤدي إلى نتائج غير محسوبة، تعود بالضرر علينا قبل أن تعود بالنفع.

قيل أيضا - في توصيف ما حدث - إن الجمهور يرغب في «ديمقراطية حديثة»، إن كان ذلك صحيحا، فإن ملك المغرب قد قدم اقتراحات واتخذ خطوات عملية تقود إلى تغيير سلمي متدرج وحقيقي كي يشارك مواطنو المغرب في إدارة بلادهم، إلا أن جذوة الاحتجاجات ما زالت قائمة، وعلى الرغم من إصلاحات مشهودة في عُمان، فلا يزال البعض سادرا في الاحتجاج. الموضوع إذن أقرب إلى كونه إنفلونزا معدية، لا تفرق كثيرا بين من هو ضعيف البنية أو قويها!

ما يحدث، وإن بدا أنه مطالب للتغيير إلا أن ما يحير العاقل ويلفت نظر الحكيم هو السؤال: ماذا بعد؟ تابعوا ما يحدث في مصر اليوم، وأنا من أشد المقتنعين بأن ما يحدث في مصر يتبعه معظم ما يحدث في دنيا العرب.

ما يحدث في مصر يثير القلق، حيث عرف معظم الشعب المصري ما لا يريد، ولكن عند وصوله إلى نقطة ماذا يريد اختلفت الأهواء وتشتت الآراء، حتى وصلت إلى منع شيخ الأزهر من دخول مكتبه، ومطالبة بعض الطلاب بأن يتنحى صاحب الجامعة الخاصة عن جامعته، أو يحرق الشرطة وزارة الداخلية، أو يصدر قانون يوافق بطرف خفي على إشهار الأحزاب دون قيد على المرجعية الدينية أو المذهبية!! من بين أمور أخرى كثيرة تكشف الخلاف الحاد على طريق المستقبل، وأنه يسير حثيثا بعيدا عن الدولة المدنية.

ما أراه هو أن هناك عوامل للفشل في الحراك السياسي العربي. قد يكون نجح بعضه في تغيير الوجوه على أهمية ذلك، إلا أن الشخصنة لا تغني عن وضع قواعد لبناء الأوطان على قاعدة المواطنة، وعوامل الفشل دليل على أن النخب العربية لم تخرج بعد من أزمتها، فقط غيرت المظهر.

«آخر الكلام»

كلما قرأت عما يحدث في اليابان بعد الكارثة النووية ونتائجها المدمرة ازددت قلقا وخوفا على الخليج وأبنائه وما حوله، فإن كانت اليابان بكل قدرتها التقنية قد تسرب الإشعاع إلى مياه الشرب في طوكيو على بعد آلاف الكيلومترات، فكيف يكون الأمر في بوشهر القريبة منا؟! مع الفقر التقني لدى الجيران، قد يقابلون أي كارثة بالدعوات، ولكنها لن تكفي، فمن يعي ذلك؟!!