صناعة المرحلة الانتقالية: أسطورة «الخبراء» الدوليين

TT

دخلت عبارة المرحلة الانتقالية قاموس السياسة والإعلام بكثافة بعد انهيار المعسكر السوفياتي وتحول بلدانه نحو الديمقراطية، ثم دخلت العبارة قاموس منطقتنا المعروف بجموده بعد حربي أفغانستان والعراق، ثم ها هي تعود مجددا إلى الظهور بقوة بعد نجاح الاحتجاج الشعبي في مصر وتونس بتغيير النظام، ومع احتمال امتداد ذلك لبلدان عربية أخرى. والمرحلة الانتقالية ليست مجرد عبارة أكاديمية، بل هي صناعة. هناك منظمات دولية أكاديمية أو تقنية مهمتها العمل على المساعدة في إدارة المرحلة الانتقالية، والكثير من تشكيلات الأمم المتحدة متخصصة في هذا الموضوع حصرا.

واليوم، بعد تراكم خبرة ومعرفة لا بأس بها عن طبيعة عمل الكثير - وليس كل - من تلك المنظمات والتشكيلات في العراق، ومع دخول بلدان عربية أخرى مرحلة الانتقال نحو الديمقراطية، ومع العروض السخية التي تقدمها عدة بلدان غربية للمساهمة في إدارة العملية، ربما من المهم فتح هذا الملف الضخم والمعقد ومراجعته، وهنا سأقدم ملاحظات بسيطة وسريعة من وحي التجربة العراقية في مجال الانتخابات والاستفتاء تحديدا. وقد اخترت هذا المجال بمناسبة نهاية الاستفتاء على التعديلات الدستورية في مصر، وقد جرى عموما بسلاسة ومن دون حملات تشكيك كبيرة، على الرغم من خطورة موضوعه ووجود انقسامات سياسية حوله، إلا أنه من اللافت أن الاستفتاء أجري بشكل عام بأيد مصرية، ومن دون استعانة مهمة بخبرات دولية، وظهرت نتائجه سريعا. ومثل ذلك يجعلنا نتساءل لماذا استغرق الإعلان عن نتائج الانتخابات العراقية الأخيرة نحو شهرين تقريبا، على الرغم من وجود فريق دعم دولي كبير، وخبرة ثلاثة انتخابات واستفتاء سابقين، وكادر عراقي هائل بنفقات ضخمة.

من المؤسف القول إنه في الحالة العراقية كان الدعم الدولي أحيانا مشكلة أكثر منه حلا، بداية بطبيعة التغيير عبر الاحتلال العسكري الأجنبي الذي ما زال يطرح قضايا إشكالية حول الشرعية (رغم أنها غالبا ما تخفي أجندة أخرى) مرورا بالكثير من الخطوات الحاسمة، ككتابة الدستور وإجراء الانتخابات وإقرار بعض القوانين، وكلها جرت في ظل انخراط كبير من «الخبراء الدوليين». وفي الحقيقة، ليس كل هؤلاء خبراء حقا، وفي هذا المضمار من العمل، لا سيما الذي يجري في بلدان تشهد صراعا مسلحا وانقساما، يبدو التمييز بين خبير وجاسوس وسمسار أمرا صعبا، وفي العراق هنالك أشخاص قاموا بالوظائف الثلاث معا، وبنجاح كبير.

وفي حالة الانتخابات، يفترض من وجود الفريق الدولي تحقيق أربعة أهداف، هي الاستقلالية والكفاءة والشفافية وإضفاء الشرعية. لكن لو ألقينا نظرة على ما حصل في العراق نجد أن هناك قدرا من الإخفاق في تحقيق ذلك، وجزء مهم منه يعود إلى العراقيين أيضا. فعلى صعيد الاستقلالية، لم يتمكن الفريق الدولي من ثني الأحزاب العراقية عن تعيين مجلس للمفوضية على أساس المحاصصة والتوزيع بينها، الذي أدى بالنتيجة إلى نقل صراع تلك الأحزاب إلى داخل المفوضية نفسها. وعلى صعيد الكفاءة، رأينا أن مشكلات كبيرة ظلت تتكرر في جميع العمليات الانتخابية التي شهدها العراق، مثل الأخطاء في سجل الناخبين، والتأخر في إعلان النتائج، وجزء منها نتاج لإصرار الفريق الدولي على معايير معينة، لكنها ربما تخفي أحيانا رغبة بفرض سيطرة هذا الفريق وتحكمه.

ومن اللافت هنا أن الانتخابات العراقية كانت تكلفتها المالية هائلة تصل إلى مئات الملايين من الدولارات، وأن جزءا من ذلك يعود إلى إصرار الفريق الدولي على اقتناء معدات الاقتراع من شركات أجنبية، مهما كانت تفاهة تلك المعدات وبساطتها. انتخابات الخارج الأولى وحدها، التي أشرفت عليها منظمة دولية، كلفت العراق 73 مليون دولار بحيث إن قيمة ما أنفق على الناخب الواحد قاربت الـ55 دولارا، وهو رقم كبير حتى في البلدان الغربية الغنية؛ فما بالك ببلد بمعدلات فقر عالية كالعراق؟! مع ذلك نشهد أن الناخبين يذهبون إلى محطة الاقتراع فلا يعثرون على أسمائهم، وأن عملية الفرز تأخذ مدة شهرين، ثم تأتي بنتائج مشكوك ومطعون بها.

أما الشفافية، فهي لم تتحقق، بل شهدنا الفريق الدولي في بعض الأحيان يقاومها، فلا أحد، بما في ذلك أعضاء بمجلس المفوضية، يدرك تماما كيف تجري عملية فرز الأصوات، وهناك ثقة عمياء بالحاسوب الإلكتروني وكأنه يعمل لوحده من دون مبرمج أو مشغل، وإذا ما قارنا ذلك ببلد ديمقراطي عريق مثل ألمانيا، حيث ترفض 95 في المائة من الدوائر الانتخابية استخدام أجهزة إلكترونية للعد التلقائي، بافتراض أن الشفافية تتطلب أكبر قدر من سهولة الإجراءات ووضوحها، يصبح من الصعب فهم لماذا يجب أن تجري عملية العد في العراق مع كل ما يعرفه من انقسامات سياسية عبر منظومة إلكترونية مركزية، بإشراف خبير دولي مجهول الاسم والعنوان، ثم بعد ذلك، وعلى الرغم من هذه الأتمتة المفرطة للعملية تتأخر النتائج لشهرين. وعندما جرى الطعن بالنتائج في الانتخابات الأخيرة، وافق الفريق الدولي والمفوضية على مراجعة العد والفرز، شريطة عدم إجراء أي مطابقة بين قوائم الناخبين وأعداد أوراق الاقتراع، وهي أهم وسائل التحقق من صحة الانتخابات، لأنها تكشف أهم وسائل تزويرها، أي قيام موظفي الاقتراع بملء أوراق اقتراع إضافية ووضعها بالصندوق، ولا يمكن كشف ذلك إلا بإجراءات تتحقق من عدد الناخبين الموقعين ونوعية توقيعاتهم وعدد الأوراق، وهو ما تم رفضه. بعد ذلك تبقى عملية إضفاء الشرعية وكأن هدفها ليس ضمان أن تكون الانتخابات نزيهة وشفافة بما يكفي، بقدر ضمان أن لا يتحدث أحد عما جرى وكيف جرى.

في النهاية أقول للمصريين والتونسيين: تريثوا كثيرا قبل أن تشركوا «الخبراء» في عملياتكم الانتقالية، وإن أشركتموهم، تأكدوا فعلا أنهم «خبراء». أما في العراق فالمستفيدون من الفوضى باتوا من القوة بحيث تنتهي أي عملية مراجعة إلى لا شيء، وبالنسبة للكثير من القوى الداخلية النافذة، والكثير من «الخبراء»، الفوضى هي ظرف العمل المثالي.