على رصيف التحرير

TT

ما جرى في ساحة التحرير سيصبح درسا تمعن في تحليله ومناقشته شتى الحركات السياسية، وبصورة خاصة الجهادية. وربما سأكون أول من يبادر لذلك لما أجد في الموضوع من أهمية.

سبق لي أن نشرت كتابين في هذا الموضوع «نحو اللاعنف» و«في الجهاد المدني». ولي فصل طويل عنه في الموسوعة الفلسطينية، بالإضافة لأوراق أكاديمية نشرت في مصادر أخرى.

مارس الجهاد السلمي ودعا إليه شتى المفكرين (كانط مثلا)، والأنبياء والرسل، ومنهم نبينا. بيد أنه لم يتحول إلى وسيلة جماهيرية عملية إلا على يد غاندي. أطلق عليه في السنسكريتية كلمة «أهمسا»، تحير الغربيون في ترجمتها فسموها «Nonviolence» وترجمناها عنهم ترجمة حرفية بـ«اللاعنف». غير أن الكثيرين استهجنوا هذه الكلمة لما توحي به من السلبية والاستسلام. طرحت في مؤتمر عمان الذي عقد لبحث هذا الموضوع فاقترحت استعمال كلمة «الجهاد المدني». لإعطاء الموضوع إطارا إسلاميا، ولكنه جهاد مدني، لا عنف ولا إرهاب ولا سفك دماء ولا تخريب.

وقد تبنى الصادق المهدي في السودان هذا الاصطلاح والأسلوب.

طالما أهبت بالفلسطينيين تبني هذا السلاح في مقارعة السلطة الإسرائيلية، واستعملوه بالفعل في الانتفاضة الأولى التي كانت 80% لا عنفية، حسب تقدير البروفسور الأميركي جين شارب، الخبير في الموضوع. أعتقد أن تخليهم عن هذا الأسلوب في الانتفاضة الثانية ولجوءهم للعنف أساء لقضيتهم وأوصلها إلى طريق مسدود. وآن لهم الآن أن يتعلموا مما فعله الشباب المصري في ساحة التحرير.

يؤمن الجهاد المدني بالتدرج ابتداء من تقديم العرائض، والاحتجاجات، ومرورا بالمظاهرات والمسيرات والإضرابات السلمية، ثم الاعتصامات والصيام حتى الموت، ثم المقاطعة، وأخيرا العصيان المدني، آخر مراحل الحملة الجهادية. لكل هذه المراحل وسائلها وأساليبها وتقنيتها.

طبق غاندي هذا الأسلوب في التدرج، أولا بتبني قضايا فردية لأي مواطن مظلوم. كان يدرس كمحام قضيته ويتبناها قضائيا حتى ينتزع الحق له. علّم المواطنين التحدي وعدم السكوت عن الضيم. توسع فَطوّرها إلى حملات عامة تشمل حقوق الفلاحين عموما، ثم تحدى الاحتكارات البريطانية بإنتاج الملح من البحر. استمر في التطوير حتى وصل مرحلة المطالبة باستقلال الهند.

تبنى أسلوب «الساتياغراها» في المواجهات. وهو الثبات والصبر وعدم الرد على العنف بالعنف. فعندما تمنع الشرطة الساتياغراهيين المتظاهرين من المرور وينهالون عليهم بالضرب، على الساتياغراهي ألا يرد على الشرطي صاعا بصاع. وإنما يتلقى الضربات بصبر حتى يسيل الدم من رأسه ويسقط مغشيا عليه على الأرض وهو يبتسم في وجه الشرطي. وعندما تناقلت وسائل الإعلام صور هذه المواجهات ارتج الرأي العام العالمي وتعالت الصيحات في بريطانيا: «أعطوا الهند استقلالها!» فلو أنهم قذفوا الشرطة بالحجارة أو تعاركوا معهم بالعصي لما التفت إليهم أحد واعتبروها من المناوشات المألوفة في كل مكان بين الشرطة والغوغاء. الجهاد المدني جهاد متميز.

لا ينجح الجهاد المدني من دون وحدة الشعب بكل طوائفه وقومياته. حرص غاندي على ضم المسلمين لحملته فشاركوا فيها بحماس تحت قيادة عبد الغفار خان. أطلقوا على أنفسهم «خداي خدمت كار».