اكفل دولة!

TT

في مرحلة من مراحل تطور العمل الخيري في مصر، خلال السنوات الأخيرة، بدأت جمعيات خيرية كثيرة تعمل تحت شعار راحت تتبناه، حتى اشتهرت به، وصار يتردد على كل لسان!

وبمثل ما إن العمل الخيري نفسه، تطور، فإن الشعار ذاته، تطور أيضا، بحيث مر على مراحل هو الآخر.. وكانت المرحلة الأولى، أن تلك الجمعيات قد رفعت شعار «اكفل يتيما».. وبعد أن راج الشعار، وأدى إلى حصيلة فيما يبدو، وحقق الهدف من ورائه، فإن الجمعيات تحركت بالشعار خطوة لأعلى، وخلقت منه صيغة جديدة، وهي «اكفل أسرة»!

وبعد فترة من العمل تحت هذا الشعار الأخير، راحت الجمعيات ترفع، مرة أخرى، من سقف عملها، وكفالتها، بأن صاغت مرحلة ثالثة من الشعار، وكانت على النحو الآتي: اكفل قرية!.. وهو أكثر طموحا في العطاء كما ترى!

ولا أحد يعرف، ما هي المرحلة المقبلة للشعار، ولكن الذي نعرفه، أو الذي يمكن تخمينه بمعنى أدق، أنه قد نجح في كل مرحلة من مراحله، في تحقيق الهدف من ورائه، وأن الجمعيات التي كانت ولا تزال تعمل تحته، قد نجحت بالفعل في كفالة أيتام، ثم نجحت في كفالة أسر بكاملها، من بعد الأيتام، ووصلت أخيرا إلى حد كفالة قرى بامتدادها.

شيء من هذا، يمكن استنساخه، في العمل السياسي بين الدول، ويمكن الاهتداء به، مع الإقرار مقدما بطبيعة الحال، بأن الدول ليست جمعيات خيرية، وأن أهدافها مختلفة قطعا، عن أهداف الجمعيات التي من هذا النوع.

لكننا، في المقابل، يجب أن نتنبه إلى الفلسفة العامة، التي كانت وراء رفع مثل هذا الشعار، من جانب جمعية خيرية أو أكثر؛ إذ الشيء الذي لا يمكن أن يكون موضع خلاف، وهو أن الهدف من وراء الشعار، أو من وراء تنفيذه بمعنى أصح، هو أن يكون اليتيم إضافة إلى المجتمع، مستقبلا، لا عبئا عليه، ولا خصما من رصيده وقوته بوجه عام.. وكذلك الحال بالنسبة لأي أسرة أو قرية في حاجة إلى كفالة.

وحين سارعت دول الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال، إلى إغاثة اليونان من الأزمة المالية التي كانت قد عصفت بها، العام الماضي، وكذلك الحال مع أيرلندا، فإن دول الاتحاد لم تكن طبعا تمارس عملا خيريا، ولم تكن تمنح «صدقة» لليونان، عندما سارعت إلى إقالتها من عثرتها، وإنما كانت دول الاتحاد مجتمعة تدرك جيدا أن اليونان ما دامت عضوا في الاتحاد، فإن سقوطها معناه عبء مضاف على الاتحاد، وعليه أن يواجهه، ولن يتطوع أحد لمواجهته بديلا عنه.

شيء من هذا، بل الشيء نفسه، مطلوب الآن، وبسرعة، لليمن، على يد جامعة الدول العربية، تارة، ثم على يد مجلس التعاون الخليجي، تارة أخرى.

وبصراحة فإن اليمن إذا كان، كدولة، عضوا في الجامعة العربية، فإن الجامعة، بإمكاناتها الحالية، وظروفها الراهنة، تكاد تكون عاجزة عن تقديم مثل هذا الشيء لليمنيين.. وإلا.. فما الذي منع الجامعة، حتى الآن، من المبادرة إلى الأخذ بيد اليمن، من هذا المستنقع الذي ينحدر إليه، يوما بعد يوم؟!

ولا نريد من أحد، أن يقول إن ميثاق الجامعة الصادر عام 1945، ينص على كذا.. وكذا.. فلسنا الآن، في معرض الكلام عن نصوص أو مواثيق، ولكن ما نعرفه، أن الاتحاد الأوروبي يمثل رابطة بين الدول الأعضاء فيه، بمثل ما تمثل الجامعة رابطة بين أعضائها، وإذا كانت دول الاتحاد قد خفت إلى مساعدة دولتين، كما رأينا، وأنقذتهما فعلا، فأين رابطتنا نحن، من أوضاع غاية في السوء في اليمن؟!

ولو أننا غضضنا البصر، مؤقتا، عن الجامعة، وعما يجب أن تقوم به، فإن مجلس التعاون الخليجي، بالدول الست الأعضاء فيه، وعلى رأسها السعودية، مدعو إلى نجدة اليمن، بأسرع ما يمكن، لأن الوضع هناك، كما نرى ونتابع، لا يحتمل الانتظار.

وإذا كانت دول المجلس، قد أرسلت قوات «درع الجزيرة» إلى البحرين، فإن اليمن ليس في حاجة إلى قوات من هذا النوع، بقدر ما هو في حاجة إلى عون سياسي، واقتصادي في الأساس، لأن الأزمة في صنعاء ترتكز على هذين الأساسين في الأصل، ثم على أساس اجتماعي ثالث قبلهما، وإذا كان الرئيس اليمني قد بعث وزير خارجيته إلى الرياض، حين تعقدت الأزمة في وجهه، بأكثر من اللازم، فإن كثيرين كانوا يتصورون العكس، وهو أن يكون الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودي، هو المبادر بالذهاب إلى اليمن.

اليمن، كما نعرف، له حدود مباشرة مع دولتين من دول مجلس التعاون الخليجي، وهما: السعودية، ثم عمان.. ومن شأن مثل هذا الجوار الجغرافي المباشر، أن يجعل الهم اليمني، هما سعوديا، بالضرورة، وأيضا هما عمانيا، ثم يجعل منه هما خليجيا بوجه عام في النهاية.

وقد كانت هناك تساؤلات كثيرة، على مدى السنوات القليلة الماضية، حول السبب الذي كان - ولا يزال - يمنع عضوية اليمن في مجلس التعاون الخليجي، ولم يكن مقنعا أن يقال - مثلا - إن السبب هو أن اليمن ليس مطلا على الخليج، شأن الدول الست الأعضاء، لأن العبرة هنا ليست بالاسم، ولكن بالمضمون، وإذا كان الاسم هو العائق، فيمكن بسهولة تغييره، بحيث يمكن استيعاب اليمن، في المجلس، ما دامت عضويته فيه، سوف تكون مصلحة خليجية مؤكدة.

اليمن، بموقعه الجغرافي على الخريطة، يبدو وكأنه خنجر في خاصرة الجزيرة العربية، عموما، ثم دول الخليج خصوصا، وليس من المتصور أن تكون الدول الست، على دراية بأن هناك أطرافا في المنطقة وخارجها، تسعى إلى استخدام هذا الخنجر، ثم تسكت الدول الخليجية، أو تتفرج من بعيد.. فالأمر في اليمن، ليس أقل خطورة منه في البحرين، وربما يكون أخطر، لأن المسائل في المنامة يمكن حلها بشيء من الوقت، والحكمة، والعقل.. وهو ثلاثي يمكن أن يكون متاحا هناك، على عكسه تماما في اليمن السعيد، أو الذي كان سعيدا، ولا نعرف متى يمكن أن يعود كما كان!

والشيء المدهش، وربما المحير، أن ضم اليمن إلى عضوية مجلس التعاون، كان مطروحا، في أكثر من اجتماع من اجتماعاته، وفي كل مرة كان يتأجل لأسباب ليست مفهومة، ولا مقنعة، ولا معقولة، وكأن في داخل دول المجلس أو حتى خارجها، من يدفعها، دون أن تدري، إلى اتخاذ مواقف ضد مصلحتها العليا، وأمنها القومي المباشر!

الآن.. لم يعد هناك وقت، كما أن الانتظار إزاء اليمن أكثر من هذا، من جانب دول المجلس، أصبح ترفا لا تحتمله هذه الدول، ولا المنطقة إجمالا، ولا نعرف كيف سوف يكون حال اليمن، وقت أن ترى هذه السطور النور، فأحواله تتطور كل ساعة، نحو الأسوأ، ولا بد أن نكفلها نحن، قبل أن يتلقفها غيرنا.

كنا، في وقت من الأوقات، نكاد نسخر من شعار «اكفل قرية».. ولم نكن ندري، أن دول مجلس التعاون الخليجي سوف يأتي عليها وقت يكون مطلوبا منها فيه أن تكفل «دولة».. هي اليمن!