المطلب الأول

TT

أكاد أتخيل المشهد أمام عيني وكأني أسمع مسؤولا حكوميا كبيرا في جيبوتي تستضيفه إحدى كبريات المحطات الفضائية الإخبارية وهو يعلق على تداعيات الوضع السياسي في بلاده وكثرة المظاهرات فيها وصيحات الناس في الشوارع فيقول: «أرجوكم.. نحن غير تونس وليبيا ومصر واليمن والأردن وسورية والسودان والعراق».. إلى آخر الأسطوانة المشروخة إياها.

كم هو مذهل حجم مساحة الكذب الذي تلجأ إليه الحكومات العربية لتبرير أوضاعها بشكل فج، فكل الذين ينادون بحريتهم هم إما مغرر بهم وإما مخترقون وإما مهلوسون وإما مساطيل وإما مرتزقة أتوا من الخارج وإما إرهابيون وإما جرذان. لم تفكر هذه الحكومات للحظة أن الذين نزلوا للشارع كانوا حقا صادقين في مطلبهم لا يبتغون سوى العيش بكرامة والإحساس بالحرية. أرتال من الأموال تكدست لترسانات مدمرة بحجة مهاجمة إسرائيل والدفاع عن القضية، لكن العنتريات لم تظهر إلا على المواطنين الأبرياء العزل، عشرات الشعارات رفعت تندد بالإمبريالية والرجعية والبرجوازية وهي كلمات لا يفهمها المواطن العادي، لكن استمر التكرار لها عملا بالمقولة «كبر الحكي وضل عيدو بيخافوا منك»، دساتير وأنظمة تعدل في لمح البصر، بينما الإصلاحات تحتاج لجانا للتأمل والتفكير والتدبر قبل الإقرار بها.

إذا كانت كرامة المواطن في يوم ما بلا معنى فحتما سيكون دمه بلا ثمن. سواء أكان الوضع «بأجندة خارجية» أم «أجندة مكاتب»، وسواء أكان بأصابع خفية أم بأصابع مبتورة، وسواء أكانوا «مهلوسين» أم «متنحين»، فالمطالب الخاصة بالحرية ومحاربة الفساد وحق التعبير والمساواة والعدل وغيرها هي مطالب طبيعية ومنطقية ومستحقة ولا يجب «تغيير» الموضوع بالتركيز على السيناريو والوسائل بدلا من التركيز على المضمون والرسالة، حتى يصبح الوقت متأخرا وتكون الإصلاحات تنازلات فات وقتها. هناك صوت «يجب» أن يعلو فوق صوت المعركة، وهو صوت الحرية، شعب مذلول مسلوب الإرادة لا يمكن أن يقاوم ولا أن يبني ولا أن يتعلم ولا أن يطور ولا أن ينمي، وبالتالي هناك الأهم ثم المهم.

شعوب فاض بها الكيل وهي تشاهد أحلاما تحولت لكوابيس ومستقبل إلى حاضر مظلم وجلادين إلى حكام يقدسون، والخوف حل مكان الأمل، والذل أصبح بديل الكرامة. شعوب شاهدت معاني جميلة مثل الكرامة والاتحاد والوحدة والاتفاق والإخاء والصفاء والعهد تتحول إلى أسماء أندية كرة قدم فقط من دون تطبيق علمي لها في الحياة العامة.

ليس من المنطق ولا العدل قبول فاصل من «التخزين» السياسي بالقول إنه لا بد من تأمين خروج كريم وآمن قبل المثول لطلبات الناس وهو النظام الذي عجز عن تأمين عيش كريم وآمن لأكثر من 3 عقود تماما كما كان فاصل «الهلوسة» السياسية بادعاء أن الشعب كله قاعدي ومهلوس، هذا النوع من الاستخفاف بالناس لم يعد مقبولا، كما انكشفت ذات يوم شعارات الزيف التي كان ثوار العسكر يوزعونها على العرب فأضاعوا من الأرض والكرامة أكثر مما كانوا يوعدون باسترجاعها فتكرست سياسة الكذب والخداع والشعار الزائف. الكرامة والحرية هما المطلب الأول للشعوب العربية اليوم ومن دونهما لن تستقيم الأمور.

[email protected]