بطانة صالحة.. وبطانة سيئة

TT

القيادة السياسية لا تكون حكيمة أبدا ما لم يتوفر لها شيئان اثنان على الأقل، أولهما: وجود مراكز استراتيجية عالية التقنية تقوم بوضع وصياغة خطط وبرامج سياسية تساعدها على إدارة دفة البلاد على أكمل وجه، وثانيهما: وجود مستشارين «سياسيين» أكفاء ذوي اختصاصات وثقافات واسعة، مهنيين (تكنوقراط)، مجردين عن الأهواء الشخصية والولاءات الحزبية والطائفية والقومية الضيقة، تجمعهم المصلحة العليا للبلاد، وإن تباينت آراؤهم واختلفت وجهات نظرهم، يمتلكون شجاعة كافية لإبداء الرأي حول القضايا التي تتعلق بحياة المواطنين ومستقبلهم.. وجود هذين المرتكزين السياسيين المهمين اللذين يكمل أحدهما الآخر ضروري للدخول إلى عالم السياسة المعاصرة الذي يعتمد أساسا على التنوع والتخصص والخبرات الجماعية وتوزيع المسؤوليات أكثر من الاعتماد على المواهب الفردية والاجتهادات والخبرات الشخصية المحدودة، ومن دونهما تظل الخطابات السياسية تسير على وتيرة واحدة تعيد وتكرر نفسها بأشكال وصور متعددة، ولكن بمضمون ومحتوى واحد لا يتغير كالأسطوانة المشروخة، كما هو حالنا اليوم.

إن كان للمراكز الاستراتيجية دور مهم ومفصلي في دعم ومساندة التنمية السياسية للبلاد، فإن دور المستشارين السياسيين في رسم وتحديد الخارطة السياسية أكثر أهمية وخطورة، ليس لأنهم على تماس مباشر مع القيادة السياسية فحسب، بل لكونهم يمثلون الوجه «الحقيقي» الآخر للقيادة التي تقود البلاد وتديرها، ولكن من وراء الكواليس، لا يمكن التقليل من شأنهم، لذلك لا بد أن تسير عملية اختيار المستشارين وفق آليات وضوابط دقيقة وصارمة من المهنية العالية التي لا تخضع للأهواء والنوازع المصلحية أو الفكرية والحزبية.

كان الحكام في السابق يختارون مستشاريهم بعناية مركزة على أساس الكفاءة والأمانة من دون النظر إلى الجنس أو الانتماء الفكري، فقد أكدت دراسة أن «السلاطين السعديين والعلويين الذين تعاقبوا على حكم المغرب على امتداد القرون الخمسة الماضية اعتمدوا في مسائلهم المالية والتجارية والاستشارية على الخبرات اليهودية» وكذلك فعل حكام وأمراء العرب من الأمويين والأندلسيين، وكما سار على هذا النهج «جنكيز خان» القائد المغولي الذي عرف بقوة بأسه، فقد كان له «مستشارون من الدول التي يفتحها من أهل الخبرة والرأي، وهو ما ساهم بشكل كبير في نهضة دولته وتنظيمها إداريا وحضاريا».

وإذا كان المستشارون في السابق يتم اختيارهم على أساس الكفاءة الذاتية والمواهب التي صقلتها التجربة والممارسة الطويلة، فقد أصبحت الاستشارات اليوم بكل فروعها واختصاصاتها علما قائما بذاته يقرأ ويدرس في أكبر معاهد وجامعات الدول المتقدمة، لا يمكن لحاكم معاصر مهما كانت قدراته أن يستغني عنها. فلا بد للمواهب السياسية الفذة أن تسترشد بخبرات المختصين ليشكلا معا قيادة جماعية ناجحة. فلو لم يلتق الرئيس الأميركي باراك أوباما برجل داهية مثل «ديفيد بلوف» ويتلقى الدعم والاستشارة الصائبة منه لما استطاع الدخول إلى البيت الأبيض أبدا، حتى قيل عنه إنه كان «القوة الحقيقية وراء ظاهرة أوباما».. هؤلاء المستشارون الجيدون كان يطلق عليهم قديما اسم «البطانة الصالحة».

وأما المستشارون الذين شغلوا مناصبهم من خلال الولاء الحزبي، أو الواسطة والمحسوبية، أو عن طريق علاقة صداقة أو قرابة مع متنفذين في السلطة، ولا يتمتعون بأي مزايا غير التصفيق وهز الرأس، وأحيانا هز «الوسط»، ولا يقدمون غير استشارات خائبة ونصائح لا تخدم البلد، فمن الطبيعي في ظل هؤلاء - الذين أطلق عليهم القدماء اسم «بطانة سوء» - أن تتجه البلاد نحو التأزم والتشرذم والقحط والبطالة، وتتوالى عليها المصائب والكوارث من كل الجهات، كما كان الحال في عراق البعث، وألمانيا النازية، وإيطاليا الفاشية، وإسبانيا في زمن فرانكو، وتونس ومصر اليوم اللتين تتجهان نحو المجهول.. إن كان زعماء هذه الدول يتحملون مسؤولية ما آلت إليه بلادهم من تدهور ودمار، فإن الجزء الأكبر من هذه المسؤولية يقع على عاتق معاونيهم ومستشاريهم، إما بخبراتهم المتواضعة، أو بإعطائهم معلومات خاطئة ومضللة، أو بإخفاء الحقائق عنهم، كما زعم بذلك زين العابدين بن علي في أول تصريح له بعد الإطاحة به عندما انتقد مستشاريه «السوء» بشدة وحملهم تبعة ما جرى له ولبلاده كاملة!

إذن.. لا بد للقيادة السياسية أن تتعظ من القيادات التي فشلت في إدارة بلادها فسقطت وسقطت معها شعوبها بصورة مروعة ومخزية، بحيث أصبحت موضع تندر وسخرية لدى بلدان العالم بعد أن كانت تتمتع باحترام وتقدير. فمن المؤكد أن وراء هذا السقوط مستشارين فاشلين ساهموا في سقوطها، والأمثلة كثيرة لا تحصى.