ضربتان في الرأس الخليجي

TT

الخليج جاءته ضربتان موجعتان، الأولى هي احتلال الكويت من طاغية عبث بأرضها وأهلها. وقتها - قبل عشرين عاما - تنادى الكثير من العرب ودول العالم، وكل الدول الخليجية، للوقوف صفا أمام ذلك الفجور، كان من المفروض أن يتعلم أهل الخليج الدرس، إلا أنه فات دون أخذ العبرة، على الرغم من كل التداعيات الكبرى التي لحقت بذلك الاحتلال والتحرير، التي جاءت من بعدهما. بعد أيام ستمر 3 سنوات على سقوط رمز النظام ذاك، وهي إعدام رئيسه الذي شرد وقتل وأفقر الشعب العراقي وزج بشبابه في حروب عبثية. الضربة الثانية ما تكشف حتى الآن من محاولة لقلب نظام الحكم في البحرين، الذي تخفى - بوعي أو من غير وعي القيادة المعارضة - تحت عباءتها، وتغير الأمر من (إصلاح) مطلوب، إلى إلحاق مذموم من «تيار صغير»، كما وصفه رئيس كتلة الوفاق في البرلمان البحريني (راجع المقابلة المطولة في جريدة «الشرق الأوسط» 26 الحالي)، إلا أنه تيار استطاع أن يختطف الراية ويوجهها حيث يريد. جاء الاحتلال العراقي من الخارج، إلا أن محاولة الاحتلال من الداخل هي الأخطر؛ حيث تأتي من بطن المجتمع فتبقى العلة باطنية.

الشيعة، كما السنة في البحرين، صوتوا، قبل أربعين عاما وبحريتهم المطلقة، على بقاء البحرين في المنظومة العربية، وقتها خفتت رغبات شاه إيران، ملك الملوك المتوج على عرش الطاووس، وتراجعت شراهته للتوسع. وكانت البشرى للبعض أن تخلص الإيرانيون من ذلك الطامع الطامح. إلا أن حسابات أخرى ظهرت في السنوات الأولى من الثورة الإيرانية، سميت وقتها «تصدير الثورة»، وتعايشت معها دول الخليج، على أنها فورة الثورة، وقله الخبرة، ما لبثت أن توارت أمام جهود الإصلاحيين، خاصة في دورة السيد محمد خاتمي كرئيس للجمهورية. إلا أنه منذ سنوات ولأسباب عدة ظهرت الطموحات من جديد وبثوب يستخدم الكثير من المطالب المستحقة ليحرفها إلى أهدافه وبغطاء مذهبي كثيف. جزء كبير من الطائفة الشيعية في الخليج يرغب في المشاركة في تسيير أمور بلده، ومن حقه الطبيعي أن يقوم بذلك، كما أن الشعوب تتوق إلى مشاركة أوسع، تحت مظلة وطنية شاملة وعامة؛ لأن المواطنة اليوم في الممارسة، وفي سيرورة التاريخ الإنساني، لا تفرق بين مسيحي ومسلم، كاثوليكي أو بروتستانتي، سني أو شيعي. هي حاجات إنسانية واحدة. الجسم الشيعي العربي شارك ويشارك ويطمح إلى المشاركة الأكثر من مدخل المشاركة. جزء مما حدث في البحرين حوَّل المشاركة إلى مغالبة. رفعت شعارات تقول للسنة: «إلى الزبارة.. انتهت الزيارة». مع عدد من الشعارات التي كانت واضحة كالأنف في الوجه، صارخة بالاستحواذ ومتوجهة إلى القطيعة مع الشريك الطبيعي في الوطن نافية له. كان حريا بالجسم الأكبر أن يتوجه بشجاعة إلى تعظيم الجوامع، وهي كثيرة في المجتمع البحريني أكثر بكثير من الاختلافات. إلا أن الحمية، التي وجدت نفسها في موقع ظنته تاريخيا وغير مسبوق، أرادت أن تسير إلى ما سمته «الجمهورية الإسلامية» وتوالت مظاهر عدم الحكمة، فظهرت قيادة حزب الله في لبنان التي لا تخفي ولاءها وليس فقط علاقتها بطهران، ظهرت مؤيدة تحت شعارات قد تبدو لغير المطلع أنها نصرة لرفع مظلمة، لكنها في جوهرها نصرة لتوقيع مظلمة على قطاع واسع من الشعب في البحرين بسنته وشيعته. ولم تظهر تلك النصرة فيما تلا من أحداث في أماكن أخرى من وطننا العربي، مما يؤكد الشكوك أن هناك محاولة جادة من بعض الإخوة الشيعة – مع الأسف - للسير وراء طهران، التي، بالمناسبة أيضا، سكتت عن أحداث مماثلة في مكان آخر من الوطن العربي بعد أن ثارت بالضجيج على ما يحدث في البحرين. هذا التناقض في ردود الفعل يؤكد لكل مراقب أن الموقف سياسي ومتحيز أكثر منه نصرة في المطلق، لم تعد الأمور ضبابية الآن. شيعة الخليج هم أبناء الخليج، ورحم الله رجلين عاقلين، هما الشيخ محمد فضل الله والشيخ محمد شمس الدين، وكانا من أكثر دعاة المشاركة ومن أكثر من عارض المغالبة، فالأولى إيجابية تبني الأوطان، والثانية سلبية تهدمها. تنامي شعور الهوى في الموقف السياسي العراقي الرسمي أثار المخاوف بتغليب الشعور الطائفي المقيت على الجوامع الكبرى في النسيج الاجتماعي العربي. من جهة أخرى، مخطئة، كل الخطأ، تلك القوى في إيران - التي تفر من أزمتها - لتصديرها إلى آخرين في الجوار، وهي فرضية لن تؤتي ثمارها، بل على العكس سوف تسمم العلاقات في الجوار وقد تقود إلى أثر سلبي في الداخل الإيراني الذي يئن من الشكوى.

إلا أن الأهم ليس لعن الظلام، الأهم هو عبور وادي الصمت الخليجي المتسم إما بالصمت وإما بالمجاملة؛ فالمشروع الخليجي الذي يتلكأ هو ما يقلق. ضربتان موجعتان، فهل نستكين إلى ضربة ثالثة؟ لا نعرف من أين تأتي ولا كيف أو متى.. ونبقى في وادي الصمت! والعالم يتغير بسرعة أو أن الأوفى العودة إلى مطالب الشعب العربي في الخليج بالدخول في اتحاد كونفدرالي، واضحة ومحددة معالمه وأهدافه، تحفظ مسيرة التنمية والأمن وتؤمن أجيال المستقبل، وتحد من طموحات لم تعد خافية. حرب إيران والعراق، في الثمانينات من القرن الماضي، دفعت بالمشروع الخليجي إلى «منظمة تعاون» تهادت في إنجازاتها المتواضعة، إلا أنها كانت حجر الرحى في التصدي لاحتلال الكويت، وما عادت آلياتها صالحة كليا لتحديات اليوم والغد، بدليل أن هناك من شكك حتى في انتقال فرقة من قوة «درع الجزيرة» إلى البحرين. ردود الفعل لم تعد تبني سورا ضد طموحات ومشاريع لم تعد خافية، وفي حالة الاضطراب تسد الفراغ القوى الجاهزة والمنظمة. المنطقة العربية اليوم تفتقد الجاذبية التي كانت، مع اضطراب قد يطول في مصر، وتخلخل قد يستمر في اليمن، وعالم يتردد حاسبا مصالحه قبل مصالح الآخرين، حتى الحلفاء منهم.

لم يعد أمام أهل الخليج إلا أن يقلعوا شوكهم بأيديهم، وأول قلع الشوك الاعتراف أن الوحدات السياسية الصغرى، على الرغم من جاذبيتها، لم تعد تحتمل ما يأتيها من هبات الرياح الكبرى طامحة وشرهة للاستحواذ عليها قطعة فقطعة.