ما يؤرق

TT

يروي جورج بوش، في مذكراته، أنه قال للرئيس الصيني إن الأمر الذي يؤرقه طوال الليل، هو وأعضاء إدارته، الخوف من تكرار 11 سبتمبر (أيلول) في أميركا. ثم تطلع إلى الزعيم الصيني وسأله: وأنت.. ما الذي يجعلك لا تنام الليل؟ قال: العثور على أعمال لخمسة وعشرين مليون صيني.

لن تكفي الحرية التي يهتف لها الشباب العربي اليوم. وقد نزل 250 ألف بريطاني، يملكون كل أنواع الحريات وفوقها فوائضها، إلى شوارع لندن، يعترضون على خفض المعونات الاقتصادية. البطالة عبودية، والفقر عبودية، وانعدام الضمان الصحي والاجتماعي ذل وظلم، ولا معنى لأي حرية من دون أن يستفيق النظام العربي على واقع الشعوب والجدران الحياتية التي تعيش ضمنها، في الكفاية والصحة والتعليم. محمد بوعزيزي أحرق نفسه لأنه رأى أمه تجوع. لا لأنه قرأ ذلك النهار قصيدة أبي القاسم الشابي (أعتذر أنني في زاوية سابقة خلطت بينه وبين أمير الشعراء).

لن ينفع مصر تحديد ولاية الرئيس؛ فهذا أمر بديهي حصلت عليه الشعوب الأخرى منذ قرون. سوف يكون أنفع لها إدارة شفافة لا تصرف 6 مليارات جنيه على التعازي والتهاني مثل حكومة أحمد نظيف (الأهرام) وإدارة غير محنطة تنقذ مصر من سمعة المقابر والعشوائيات.

كذلك في المغرب والجزائر وسورية وغزة واليمن.. لم يكن مليار صيني فقير ومتخلف يشكلون أي شيء قبل أربعين عاما. هاهم يشكلون الآن أهم معجزات النمو. الارتفاع الوحيد في العالم العربي خلال نصف قرن، كان الارتفاع المذهل في الولادات.

لم يعد في إمكاننا البقاء خارج العالم؛ فعالمنا ليس افتراضيا، بل هو فرضي، حتى الأرقام فيه غير حقيقية. ما من شعار في العالم العربي ولد وعاش. هكذا انتهينا إلى مجتمعات ورقية تستظل اللافتات وتجوع تحتها إلى الشعارات المكتوبة عليها. دول نادت بالحرية ولم تعرف شيئا من نسائمها. ودول رأت الوحدة في غزو جاراتها. ودول أرسلت تغتال الفلسطينيين في أوروبا بداعي أنها أكثر حرصا منهم على شؤون الفلسطينيين.

لا يكفي شعار الحرية من دون شعار العمل. ولا يكفي العمل من دون المصالحة. في بلدان كثيرة تبدو «الثورة» وكأنها لا تعني سوى الخلاف والانقسام والانتقام والثأر وحلول قوة محل أخرى. يجب أن نتعلم المصالحة (وأمثولات كثيرة أخرى) من ألمانيا. أعظم ما حققته أن جدار برلين زال في النفوس قبل أن يفتت على الأرض. أو تعالوا نتعلم من الصين؛ حيث ما يؤرق أن ينام الناس من دون عشاء وألا يجد الابن مدرسة يذهب إليها وأن يبقى الزوج في البيت، لا عمل يذهب إليه.