الثورة وما بعدها!

TT

المنطقة العربية مفعمة، هذه الأيام، بثورات كثيرة، ويبدو أننا إزاء موجة سوف يكون لها ما بعدها من آثار، تماما مثلما حدث مع بداية الخمسينات؛ حيث جاءت الانقلابات العسكرية - تحت اسم الثورة - بتغييرات كبرى في العلاقات بين دول المنطقة وبينها وبين العالم الخارجي، وسبل تطويرها في الداخل. عرفنا الحرب الباردة العربية، كما عرفنا الاشتراكية التي كانت في جوهرها إدارة الدولة للاقتصاد سواء أكان ذلك في الدول «التقدمية» أم تلك «المحافظة»، الجمهورية والملكية في آن واحد.

وبعد ثورة الانقلابات العسكرية التي تكسرت على نصل الهزيمة المدوية في يونيو (حزيران) 1967، جاء نصر 1973 بتحالف الاعتدال الجمهوري والملكي لكي ينحو بالساحة العربية كلها نحو «الاستقرار» الذي سرعان ما بات جمودا وركودا. وبات مناط التغيير دائما هو طول الطرق وعدد الجسور وكمية الكهرباء والمياه العذبة وارتفاع العمر المتوقع عند الميلاد.

باتت كلمة السر في العالم العربي هي الإصلاح، لكنها لم تكن محبوبة كثيرا؛ لأنها ارتبطت بالمجهول الذي لا نعرف عنه شيئا ولا نستطيع أن نفهمه أو نقيسه أو نتابعه. وذات مرة قال وزير عربي: إن الإصلاح لا يكون إلا فيما هو معطوب وله في الخلل نصيب، ومن ثم فإنه لا مجال للإصلاح. وكل ما نحتاجه، أو هكذا جرى الذكر، هو الزمن الكافي لكي تتطور الأمور نحو الأفضل والأحسن وتنتقل البلاد من زمرة البلاد النامية إلى زمرة تلك المتقدمة. ولم ينسَ المتحدث أبدا أن يشير بعلم إلى: كيف استغرقت عملية التطور في هذه الطائفة الأخيرة من الدول قرونا طويلة لكي تنتقل من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، ومن الحكم الاستبدادي إلى الحكم الديمقراطي؟ وكيف ظلت أميركا تحافظ على مؤسسة العبودية حتى منتصف القرن التاسع عشر، ومن ناحية المضمون حتى بعد منتصف القرن العشرين؟ وكيف أن بريطانيا احتاجت 7 قرون لكي تعبر من عهد الـ«ماجنا كارتا» حتى وصلت إلى الشكل الديمقراطي الذي نعرفه اليوم؟

المشكلة هنا ليست الإصلاح والتغيير نحو ما هو أفضل وأرقى، ولكن مراعاة الزمن الذي ما لم يتم التعامل معه بحرص بالغ فإنه يمكن أن يؤدي إلى نتائج وخيمة كما حدث في بلدان أخرى، بعيدة وقريبة، أدت فيها عمليات حرق المراحل وتجاهل الظروف التاريخية إلى أوضاع منهارة، كتلك التي جرت في روسيا أو جمهوريات آسيا السوفياتية السابقة، وربما يصل الوضع إلى السوء الذي وصل إليه في أفريقيا.

كانت أفريقيا خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الـ20 قد صارت مثلا للتمزق والانقسام، وباختصار للدول الفاشلة، وكان الاستقرار الذي صار جمودا، والجمود الذي أصبح ركودا، هو العاصم من الوصول إلى تلك الحالة التعيسة. ولكن ما نشاهده اليوم من ثورات دل على فساد النظرية كلها وأن بقاء الأمور على ما هي عليه فترة طويلة بينما العالم كله يجري بسرعة الضوء سرعان ما يولد ضغوطا غير عادية، وبخارا مكتوما سرعان ما ينفجر بأشكال متنوعة. وما شاهدناه في تونس ومصر كان مختلفا عما شاهدناه في عمان والبحرين وما نشاهده الآن في اليمن وسورية والمغرب والجزائر.

لكن الحقيقة هي أن الاختلاف لا يغفل أمرين، أولهما: أن الانفجار مقبل لمن لا يزال متمسكا بأن بقاء الأحوال على ما هي عليه من قبيل الفطنة، أو أن الإصلاح ممكن فقط في الأوقات المناسبة التي لا تأتي أبدا، أو أن القضية في أولها وآخرها اقتصادية يتم إطفاء نارها ببعض من الإنفاق على أصحاب الحاجات. وثانيهما: أننا لا نعلم ما الذي سوف يتلو الانفجارات الحالية أو الجارية أو المقبلة، فما زلنا أمام عملية تاريخية تحت الصنع يتغير بعضها كل يوم، وبعضها الآخر كل ساعة. الوجه الأول لما يجري هو أننا بسبيل عمليات للتحول الديمقراطي يطول فيه الحديث عن الدساتير والإعلانات والقواعد الدستورية وسبل انتقال السلطة وتداولها. لكن الوجه الثاني لِما يجري هو تراكم عناصر للاستبداد والطغيان ليست جديدة هي الأخرى، يبدأ أولها بطريقة التعامل مع «النظام البائد»، وبعد قليل كيفية التعامل مع «الثورة المضادة»، ولا يمضي وقت طويل حتى تبدأ عملية مقاومة التدخل الأجنبي الذي يريد إجهاض الثورة. الآلية معروفة ودعونا نتذكر ثورتين:

ففي إيران أجمع عدد من القوى السياسية على ضرورة الإطاحة بنظام الشاه محمد رضا بهلوي، وقد ساعد هذا الهدف في تجسير الفجوة الواسعة في المواقف والسياسات، الأمر الذي أسهم فعلا في نجاح الثورة والإطاحة بالشاه عام 1979، لكن بعد نجاح الثورة في تحقيق هدفها، بدأت الخلافات في الظهور، وساعد في ذلك التباين في التوافق على معطيات المرحلة الجديدة، ومحددات وطبيعة النظام السياسي الجديد الذي سيقوم في أعقاب الإطاحة بنظام الشاه؛ فقد تصاعدت حدة الخلافات بين القوى السياسية التي شاركت في الثورة، حول طبيعة الجمهورية الجديدة؛ هل تكون «إسلامية» أم «ديمقراطية»، وانتقل التباين إلى الدستور الجديد والبنود الواجب أن تتوافر فيه والسياسة الخارجية للجمهورية الجديدة، وهو ما أدى في النهاية إلى انتهاء مرحلة التوافق وحسم الموقف لصالح تيار سياسي واحد، هو تيار رجال الدين، الذين استطاعوا فرض رؤيتهم وإقامة النظام السياسي الذي يريدونه وهو نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

حسم الخلافات لصالح تيار رجال الدين الذين نجحوا في السيطرة على مقاليد الأمور في الدولة أنتج، في رؤية الكثير من الاتجاهات، عددا من التداعيات المهمة، أهمها: دخول إيران في مرحلة من عدم الاستقرار السياسي والأمني، بعد موجة الاغتيالات التي طالت عددا من كبار مسؤوليها، وتزايُد الصعوبات التي وقفت في مواجهة تحولها من حالة الثورة إلى حالة الدولة، ودخولها في توترات وصراعات قوية مع محيطها الإقليمي والدولي الذي أبدى قلقا ملحوظا من توجهاتها الجديدة، وبدا ذلك جليا خلال الحرب مع العراق التي استمرت 8 أعوام بين 1980 و1988. وبعد ذلك جاء تصدير الثورة الذي ألهب المنطقة حتى الآن.

وتقدم الثورة الروسية عام 1917 مثالا آخر؛ حيث لم تشهد الدولة استقرارا فوريا بعد أن نجحت الثورة، التي اندلعت في فبراير (شباط) من ذلك العام، في إنهاء حكم القيصر؛ إذ تم تشكيل حكومة مؤقتة تبنت خطابا سياسيا قام على تأسيس نظام ديمقراطي في روسيا والحفاظ على التوافق السياسي بين القوى المشاركة في الثورة، والاستمرار في الحرب العالمية الأولى إلى جانب الحلفاء، لكن إخفاق الحكومة المؤقتة في معالجة الأزمات الاقتصادية القائمة وتلبية مطالب الجماهير أدى إلى إقصائها من السلطة على يد البلاشفة بقيادة لينين في أعقاب ما يعرف بـ«ثورة أكتوبر» التي نشبت في العام نفسه. ولم تستقر الأمور بعد ذلك مباشرة؛ حيث دخلت الدولة في حرب أهلية في الفترة من عام 1918 وحتى عام 1921 ومن بعدها دخلت روسيا وحدها أو بعد أن صارت سوفياتية حروبا باردة وساخنة عدَّة.