عندما يكذب النظام

TT

عندما تتضارب أقوال المسؤولين والمتحدثين الرسميين ويتخبطون في تصريحاتهم، فمعنى ذلك أن النظام يكذب. وعندما يستميت مثل هذا النظام في سعيه لنفي واقعة معينة، فمعنى ذلك أن الواقعة حدثت بالفعل، وأن السلطة تحاول طمس الحقيقة ببث الأكاذيب ومحاولات تشويه الصورة.

هذا هو ما حدث مع النظام الليبي في جريمة الاعتداء على المحامية الليبية الشابة إيمان العبيدي التي قامت في شجاعة متناهية بتعرية النظام وفضح ممارسات جنوده ومرتزقته، وحولت جريمة اغتصابها إلى محاكمة علنية أمام أعين العالم كله للنظام وممارساته. قد يكون النظام الليبي كذب كثيرا، خصوصا في الآونة الأخيرة عندما بدأت الدائرة تضيق حوله، لكن المحاولات البائسة لطمس الحقيقة وتشويه صورة هذه الشابة الليبية، كانت قمة السقوط الأخلاقي. ربما أن المرء يجب أن لا يتوقع شيئا أفضل من هذا النظام الذي يصف زعيمه الشعب بالجرذان والكلاب الضالة ويدعو إلى سحقهم.

دعونا نراجع مشاهد تصدي النظام بكل آلاته الأمنية والإعلامية للمحامية الشابة التي تحدته مجردة من كل سلاح، وكسرت كل حواجز الخوف والإحساس بالعار، وواجهته أمام الملأ برواية مأساتها التي تجعل الدم يتجمد في عروق أي إنسان حر شريف. فهي منذ أن دخلت باكية إلى الفندق الذي يقيم فيه الصحافيون الأجانب تحت عيون النظام الذي يمنعهم من التجول بحرية في طرابلس والحديث إلى السكان من دون رقيب، اندفع رجال الأمن نحوها لإسكاتها بعد أن بدأت تروي تعرضها للاعتقال في حاجز تفتيش لكتائب القذافي والاحتجاز لمدة يومين تعرضت خلالهما للاغتصاب عدة مرات. فجأة رأينا نادلات في الفندق وبعض الموظفين يظهرون وجها أمنيا وينقضون مع آخرين على الفتاة لإسكاتها بالقوة وبالضرب والتهديد. وعندما حاول صحافيون أجانب التدخل لحماية الفتاة من محاولات شدها بالقوة، تعرضوا للضرب والتهديد، وتحطيم معداتهم التي طالتها أيدي رجال الأمن في محاولتهم المحمومة لمنع الصور والأفلام من الظهور.

كان المشهد عارا على النظام، لكن العار الأكبر كان في ما هو آت. فقد انطلق المسؤولون والمتحدثون في محاولة لتشويه صورة المحامية الشابة وتلطيخ سمعتها، لأنها تجرأت وتحدثت عن مأساتها. بداية قال المتحدث الرسمي: إن المحققين أخبروه أن الفتاة «كانت سكرانة» وأنها مضطربة عقليا. إنها التهم الجاهزة في قاموس النظام. ألم نسمع العقيد القذافي يقول إن الليبيين الذين انتفضوا ضده كانوا سكارى وتناولوا مخدرات؟ بعد ذلك أفردت مذيعة على التلفزيون الليبي برنامجا كاملا للنيل من إيمان العبيدي فوصفتها بالكذابة وبأنها «بايعة البلد وبايعة الشعب الليبي»، وقالت «حتى العاهرة أحيانا يكون عندها وطنية عندما تعرف أن وطنها في خطر». فالمذيعة «الثورية» كانت تريد من إيمان العبيدي أن تلتزم الصمت إزاء ما حدث لها، فهذه هي العدالة في جماهيرية القذافي. وأفصحت المذيعة عن هذه الرغبة عندما قالت «أخلاقنا في ليبيا، البنت لا تتكلم، وأهلها يموتون ولا يمكن أن يتكلموا إذا تعرضت بنتهم للاغتصاب، بل يمكن أن يقتلوا البنت».

لكن الدقائق القليلة التي تحدت فيها المحامية الشابة النظام وقدمت روايتها أمام الصحافيين، كانت كافية لكي تتلقف كل وسائل الإعلام الدولية والمواقع الإنترنتية القصة التي روعت الناس، وكشفت لهم بعض ما يدور بعيدا عن الأعين من ممارسات أعوان النظام وحماته. فالنظام الذي يستعين بالمرتزقة لقتل المواطنين يجعل حرمات بلده عرضة للانتهاك، وهو ما شاهد العالم لمحة منه في بدايات الأحداث عندما انتشر شريط فيديو على موقع «اليوتيوب» وبثته الشبكات التلفزيونية، ويظهر فيه مرتزقة يدخلون إلى عمارة سكنية، بينما أصوات سيدات في الخلفية تستغيث من «إنهم يريدون اقتحام بيوتنا وسيقتلوننا». وفي وضع مثل هذا يحرض فيه النظام كتائبه ومرتزقته على قتل الناس، لم يكن غريبا أن نسمع أيضا طبيبا في مدينة بالشرق الجزائري يشهد، بعد طرد قوات النظام منها، بأن سيدات قدمن إلى المستشفى بعدما تعرضن للاغتصاب. إذن إيمان العبيدي ليست وحدها التي تشهد بجرائم النظام واستباحته للبلاد وانتهاكه لكل القيم، خصوصا قيم الشعب الليبي.

قضى نظام القذافي وقتا طويلا في محاولته تدمير سمعة المحامية الشابة، فخرج المتحدث الرسمي ليزعم بأنها عاهرة، ثم يعود ليحاول تخفيف وقع روايته الفظة، فيقول للصحافيين الذين أمطروه بالأسئلة عن إيمان لمعرفة مصيرها بعد أن اقتادها رجال الأمن عنوة، إنها بخير وتلقى معاملة حسنة، وقد أفرج عنها وهي مع أختها وأسرتها، وتم توقيف أربعة أشخاص للتحقيق معهم. لكن بعد ساعات عاد المتحدث ذاته برواية أخرى بأن النيابة «تحقق مع البنت حول ملابسات القضية»، وأن «الطرف الثاني (أي من اتهمتهم إيمان باغتصابها) رفعوا قضية قذف وتشهير ضدها».

مع تصاعد حملة النظام، خرج والدا المحامية الشابة، متحديين الظلم ومحاولات الضغط والترويع، للدفاع عنها في شريط عرضته قناة «الجزيرة»، أكدا فيه أن ابنتهما لا تعاني من تخلف عقلي أو مرض نفسي، كما يحاول النظام تصويرها، وأنها خريجة كلية الحقوق وتعمل محامية. وكشفت الأم وهي تبكي كيف أن النظام طلب منها أن تتدخل لإقناع ابنتها بتغيير أقوالها، ومقابل ذلك فإنه سيقدم لها ما تريده من مال أو دار. لكن إذا كان النظام قد باع ضميره وتجرد من كل القيم، فإن الأم لم تقدم ابنتها قربانا، بل حدثتها وطلبت منها الصمود. قالت الأم المفجوعة إنها لا تشعر بالعار من ابنتها، بل هي فخورة بها لأن إرادتها لم تنكسر أمام عناصر الأمن.

مأساة إيمان العبيدي سترسم فصلا آخر في سقوط نظام العقيد الذي فقد كل شرعية بعد لجوئه إلى القتل والإبادة لإخضاع الشعب، وبعد أن تجرد من كل القيم والأخلاق.

[email protected]