العقيد والـ«كرسيلوجيا»

TT

«معمر القذافي ليس مصابا بداء الجنون»، بل على العكس، هو صاحب مخططات جهنمية، وحيل إبليسية، كما أنه ماهر في تصور سيناريوهات مستقبلية افتراضية ووضع ردود مسبقة عليها. ولولا أنه داهية من الطرز الرفيع لما بقي 42 عاما في السلطة يفلت، ليس من قبضات شعبه الغاضب فقط، وإنما من عقاب المجتمع الدولي بأسره، على الرغم من تورطه في عمليات إرهابية وطموحه النووي الذي تنازل عنه عام 2004، بمكر حيَّر العالم. صمود القذافي أمام إرادة شعبه الفولاذية لاقتلاعه، ولو مقابل نهر من الدماء، يؤكد أننا أمام رجل غير اعتيادي. تحديه لطائرات الحلف الدولي ضده ورفضه الرضوخ، حتى اللحظة، معناهما أنه لا يزال متأكدا من قدرته على تكبيد أعدائه أثمانا باهظة.

كل تركيبة «الجماهيرية العظمى»، من تقسيمات جيشها الشعبي إلى مجالسها المحلية، وصولا إلى هندستها المدنية زنقة زنقة، رتبت لتكون في خدمة حماية كرسي العقيد. الذين زاروا «باب العزيزية» يتحدثون عن قلعة رئاسية لم يروا لها مثيلا ومساحات شاسعة ذات تقسيمات غريبة تجعل مكان إقامة الزعيم حصنا ضخما داخل مدينة طرابلس. ليبيا من «الصحرا إلى الصحرا» هي بيت القائد وقلعته، وهاهي الأسوار تخترق، لكن الباقي ليس بقليل.

كل كلام عن جنون القذافي بسبب حركاته الكاريكاتيرية وخطاباته المسرحية، وملابسه المزركشة، وكشاشة الذباب التي يحملها في يده، كما خيمته التي نصبها في باحات القصور الرئاسية، مجرد لغو لا يثبت أمام التحليلات النفسية التي باتت تطارد حركاته وسكناته لفهم ما يدور في ذهن رجل يتخذ من 6 ملايين ليبي رهائن لنزواته السلطوية. المقارنات التي أجريت بين القذافي وشخصيات أخرى مثل هتلر وموسوليني بينت أن أعراض «جنون العظمة» التي تظهر على الرجل من مشيته الطاووسية إلى رقبته المتشنجة، مخافة الانحناء وليس انتهاء باعتبار شعبه «جرذانا» و«مهلوسين»، هي أعراض تفاقمت بفعل مدة حكمه الطويلة، وسلطته المطلقة. وما يعانيه حاليا هو صدمة مواجهة واقع رفض شعبه له، بعد أن اعتبر لعقود أنه الآمر الأوحد بأمر الله.

«جنون العظمة» كمرض متأتٍّ من طفولة يغيب فيها الأب لحساب حضور أمومي طاغ، ليس مما ينطبق على حالة العقيد. يقول إريك رولو، أحد الصحافيين الفرنسيين الذين عرفوا القذافي عن قرب، إن له أبا يحبه حبا جما، وإنه شهد لقاء بين القذافي ووالده الذي كان قد تجاوز المائة سنة، ينم عن عاطفة كبيرة له تجاه والده الشيخ.

مظاهر الانحراف السلوكي النرجسي، الذي جرف القذافي رويدا رويدا إلى هذيانات ذهانية في الفترة الأخيرة، جعلت الناس يترقبون خطاباته الاستعراضية الترفيهية، لا تشير إلى جنون الرجل بقدر ما يجب أن تحرض على دراسة أعراض «مرض الكرسي» و«هلاوس السلطة». ولا بد أن نتساءل: لماذا يتمكن القذافي من إلقاء خطاب رصين لمدة تتجاوز الساعة كما رأيناه جالسا في باب العزيزية أمام مناصريه، بينما يفتعل أساليب في الكلام وجملا في الإلقاء مثيرة لدرجة التناقض وإثارة السخرية، في مناسبات أخرى، هدفها تحميس الجمهور كما اعترف هو نفسه؟ أليس افتعال الجنون هو أحد أسلحة العقيد وحيله الممضة؟

تطرف القذافي قد يجعلنا ننسى المتشابهات بينه وبين مبارك وبن علي، سواء في الإقبال على إخفاء الشيب أو استخدام البوتوكس لردم التجاعيد، أو اللجوء إلى أساليب سوريالية يائسة، من طرفهم أو من جانب أقربائهم، لفرملة المعارضين لهم. صحيح أن القذافي بالغ في عمليات التجميل حتى بات وجهه كالمومياء، لكننا ربما نسينا أننا ما كنا قادرين حتى على قراءة تعابير وجه مبارك وهو يلقي خطاباته الشهيرة الأخيرة. وإذا كان القذافي وابنه قد أنكرا وجود الثورة بالكامل، بينما كان معارضوهم يكتسحون المدينة تلو الأخرى، فإن مبارك الصغير (وهو ليس سوى طليعة ديكتاتور) يبدو أنه أمر بإطلاق الحيوانات المفترسة من حدائق الحيوانات لإرعاب الثائرين المصريين، وتفريق المتظاهرين، لكنه لم يجد من يوافقه. وهو ما لا يختلف في روحه عما رأيناه في موقعة الجمل الشهيرة. أعراض «جنون الكرسي» التي لها سمات مشتركة مع «جنون العظمة» لا يفترض أن تربكنا لنخلط بين مرضين مختلفين، أحدهما يتأتى من طول الجلوس في موقع السلطة مع افتراض أنه محفوظ ومصون للأولاد وربما الأحفاد، أما الثاني فهو نتيجة استعداد نفسي، وخلل تربوي. وبما أن العالم العربي مبتلى بالداء الأول الذي لم يشخص أو يعرف له دواء بعدُ، فأول ما يتحتم على الثورات إنجازه، لتفادي تكرار المأساة الحالية، هو وضع دساتير تحد، بشكل قاطع، من مدة الحكم الرئاسي، وتجعل الكراسي مصنوعة من مادة التيفال التي لا تلصق أبدا. وبالانتظار فنحن أمام الكارثة القذافية التي يصعب تخيل نهايتها. فأوباما لا يريد أن يكرر الخطأ الذي ارتكبته أميركا في العراق بإدخال قوات برية، أو باستهداف الزعيم الليبي، بينما المعارضة غير مدربة لتواجه حصون القذافي على أبواب طرابلس وفي مقره الحصين. أما القذافي نفسه فلا يبدو، بحسب الذين جهدوا في فهم شخصيته أو من عرفوه عن قرب، مثل وزير العدل المنشق مصطفى عبد الجليل، أنه قد يقبل نفيا أو تنحيا، وقد ينتهي منتحرا أو مقتولا، وسيبقى يقاوم حتى الرمق الأخير. وبالتالي تبقى الخاتمة الليبية غامضة ومخيفة، بوجود شخص يقول وزير الدفاع البريطاني عنه إنه «ديكتاتور وحشي فقد صوابه منذ فترة طويلة» وإن الغارات ستبقى متواصلة «حتى يتمكن الناس من النوم في أسرَّتهم بسلام».

هذه الطموحات الصغيرة للأمن والحرية في ليبيا وغيرها من الدول العربية الهائجة غضبا اليوم ليست كبيرة أو مستحيلة، والقذافي، كما غيره، بمقدورهم أن يحقنوا الدماء ويوفروا على شعوبهم بؤسا كبيرا، بتنازلات هي بقياس التاريخ متواضعة ويسيرة، ومع ذلك تبدو مستحيلة. أما الأسباب، كما الأعراض وطرق المعالجة، فيجب أن يتكفل بها علم جديد، على العرب البحث فيه بعد أن تميز رؤساؤهم في عشق السلطة، يحمل اسم «علم الكرسي» أو «كرسيلوجيا»، على غرار «سوسيولوجيا» و«سيكولوجيا».