لو فعل الأسد (الأب) ما فعله الملك حسين لجنب ولده هذه الأوضاع المأساوية!

TT

ما كان يجب أن يتأخر «الإصلاح» في سورية إلى أن تنفجر الأمور على هذا النحو وإلى أن يصبح مستقبل هذه الدولة العربية غامضا بحيث إما أن يبادر الرئيس بشار الأسد إلى التقاط هذه اللحظة التاريخية المفصلية ويستجيب لمتطلبات شعبه، ولو في الحدود الدنيا المقبولة، وإما أن يبقى أسير الصيغ الجامدة والمتحجرة التي لا يزال يتمسك بها رموز الحرس القديم من مساعديه وأعوانه وأقاربه الذين بقيت مفاهيمهم متوقفة عند الثامن من مارس (آذار) 1963 وعند أن سجن المزَّة هو عنوان التعامل مع المخالفين في الرأي حتى من داخل الحزب نفسه.

ولمزيد من الدقة فإنه ما كان على الرئيس الراحل حافظ الأسد أن يسلَم الحكم لأبنه سلفا قبل وفاته قبل أن يمهد له الطريق بتغييرات شاملة وأنه كان عليه أن يدرك أن الزلازل التي ضربت أوروبا الشرقية ودول المنظومة الاشتراكية كلها سوف تضرب سورية خاصة أن نهاية صدام حسين ونظامه وحزبه الأوحد قد أصبحت واضحة منذ أن قفز تلك القفزة الشيطانية وقام بغزو دولة شقيقة مسالمة تقوم بكل واجباتها وأكثر تجاه أشقائها العرب وهي الكويت.

ولأن عملية «التوريث» قد جاءت في دولة نظامها جمهوري اسما وشكلا فقط فقد كان من الواضح أنها ستكون كارثية العواقب ولهذا فإنه كان على الرئيس الراحل، المعروف بفطنته والموصوف من قبل الذين يعرفونه عن قرب بأنه قائد استراتيجي يستشعر الكوارث قبل وقوعها، إذن كان لا بد من هذا التوريث أن يضع ابنه الشاب على بداية طريق صحيح وأن يخلَّص سورية مسبقا من تركة ثقيلة متمثلة في نظام سياسي واقتصادي من مخلفات الماضي وأن يحررها قبل أن يسلمها لولده من صيغة الحزب الأوحد الحاكم ومن صيغة الجبهة الوطنية المأخوذة من تجربة دول أوروبا الشرقية (الشيوعية) وبالطبع أيضا من الأحكام العرفية ومن طاقم كبير من المسؤولين في الحزب والدولة الذين ما زال من تبقى منهم يتمسك بالماضي ويرفض رؤية كل هذه التحولات التي شهدها العالم منذ بدايات تسعينات القرن الماضي وحتى بدء هذا الـ«تسونامي» الإصلاحي التغييري الذي بات يضرب المنطقة كلها.

لقد غادر الرئيس حافظ الأسد، رحمه الله، وخلف لهذا الشاب الذي لم يكن يتوقع أن تنتقل إليه مهام دولة تقع على عاتقها مسؤوليات كبيرة ومشكلات داخلية معقدة ومتراكمة منذ الانقلاب العسكري الذي أوصل حزب البعث للسلطة في الثامن من مارس عام 1963 ومنذ حركة الثالث من فبراير (شباط) عام 1966 وأيضا منذ الحركة التصحيحية عام 1970 التي لم تصحح شيئا وخلقت لهذا البلد المثقل بالأعباء السياسية والاقتصادية والاجتماعية مشكلة ضخمة اسمها الدور الإقليمي والدولة المحورية.

بدأ حافظ الأسد بمجرد الانفراد بالحكم، بعد أن كان شريكا مضاربا غير منضبط بمعادلات الشراكة، بتكريس نهج استمر مع ولده بشار حتى الآن ملخصه أن سورية دولة محورية وأن لها دورا إقليميا يجب أن تأخذه، إن ليس بالمناورات والضغط السياسي فبالإكراه والقوة فكان ذلك التدخل العسكري السافر في لبنان والهيمنة عليه هيمنة مباشرة واحتلاله لنحو عشرين عاما وكانت تلك الضغوطات التي مورست على الأردن والتي وصلت إلى حد التلويح بالقوة العسكرية وكان أيضا ذلك التدخل غير المبرر في الشأن الداخلي الفلسطيني والسعي لتدمير منظمة التحرير بعد إخراج ياسر عرفات وقواته من بيروت في عام 1982 وأيضا، وهذا زاد الطين بلة، فإن الرئيس الراحل مناكفة بنظام صدام حسين في العراق ولإيجاد عمق استراتيجي لبلده فإنه قد بادر بعد استقرار ثورة الخميني إلى التحالف مع إيران مما حمل الرئيس بشار أعباء داخلية كثيرة بالإضافة إلى الأعباء العربية.

لقد بقي الرئيس حافظ الأسد حتى آخر لحظة من حياته يتمسك بصيغ الدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية وبصيغة الاتحاد السوفياتي في المرحلة الستالينية وهو لم يستطع رؤية هذا الذي يجري الآن ليفعل ما فعله المغفور له الملك حسين، عاهل الأردن السابق، الذي كان توقع كل هذه المستجدات فبدأ عملية التحول والإصلاح في عام 1989 وأعاد البلاد إلى المسار الديمقراطي الذي كان توقف، بعد تجربة كانت موفقة وناجحة في عام 1957، تحت ضغط تعاظم ظاهرة الانقلابات العسكرية.

ولهذا فقد وجد الملك عبد الله الثاني، عندما انتهت إليه أمانة المسؤولية في عام 1999 بعد رحيل والده، طريقا ممهدا وسالكا وآمنا ولذلك فإنه بالنسبة للإصلاح والتغيير لم يبدأ من نقطة الصفر، كما أصبح مطلوبا وبإلحاح من الرئيس بشار الأسد أن يفعل، بل هو بنى على ما كان قائما فحقق نجاحات ملموسة خلال العشرة أعوام الماضية رغم أن المرحلة كانت صعبة في ظل الانهيار الاقتصادي العالمي وفي ظل تعقيدات القضية الفلسطينية وتعاظم ظاهرة الإرهاب في هذه المنطقة وفي العالم بأسره واحتلال العراق من قبل القوات الأميركية.

وحقيقة أن الملك عبد الله الثاني لم يواجه، بعد أن أطاح هذا الـ«تسونامي» الثوري الهائل نظامين عربيين هما نظام الرئيس زين العابدين بن علي ونظام الرئيس حسني مبارك وبعد أن أصبح يهدد نظامين آخرين بالمصير نفسه هما نظام معمر القذافي ونظام علي عبد الله صالح، ما يواجهه الرئيس بشار الأسد حاليا والفضل هنا يعود لاستشراف والده الملك حسين هذه الأوضاع الحالية قبل أكثر من عشرين عاما ويعود أيضا إلى أنه هو نفسه ليس عقلية شمولية واستبدادية ولا هو ابن مدرسة سياسية تتكئ على الإرث الستاليني وعلى نظرية الحزب الأوحد والقائد الملهم مبعوث العناية الإلهية الذي لا يخطئ والذي لا يجوز أن يخالف أي كان رأيه وتوجيهاته.

إن هذا هو واقع الحال ولذلك فإن الرئيس بشار الأسد، الذي ورث نظاما ستاليني الطابع وشمولي الممارسة، لا يحسد على ما هو فيه فالمطلوب منه، ما دام أن الترقيع لم يعد مجديا، أن ينقلب على نفسه وعلى النظام الذي أورثه إياه والده وأن يفكك هيكلية هذه الدولة التي أقدامها في القرن الحادي والعشرين ورأسها لا يزال في بدايات ستينات القرن الماضي ولذلك فإنه لا بد من عملية جراحية استئصاليه سريعة والواضح أن هذا ليس سهلا على رجل غاطس في تجربة والده حتى ذروة رأسه ويحيط به طاقم من المساعدين والأقارب يخشون انكشاف عوراتهم وفقدان امتيازاتهم إن هو اختار خيار شعبه ووضع نفسه في مقدمة جيش الإصلاح والتغيير بكل قناعة.

ربما يلجأ الرئيس بشار الأسد تحت ضغط المحيطين به إلى مضاعفة استخدام القوة المفرطة لقمع ثورة شعبه على غرار ما فعل والده بمدينة حماة في فبراير عام 1982 لكن عليه أن يدرك أن عالم اليوم غير عالم الأمس وأن هذا العالم لا يمكن أن يسكت على «حماة» جديدة ولذلك وعلى اعتبار أنه شاب يدرك استحقاقات ثورة الشباب في بلده فإن المتوقع رغم كل هذا الإرث الثقيل أن يفاجئ كل الذين يراقبون المشهد عن بعد وأن يتخذ خطوة تاريخية ستخلده إلى الأبد حتى إن هو تخلى عن السلطة إن تحت ضغط الأحداث وإن بصورة طوعية!.