عودة إلى «بيت الطاعة»

TT

قد يكون السؤال الكبير اليوم: متى يرحل العقيد معمر القذافي؟

ولكن السؤال الآخر الذي تطرحه تطورات الأحداث الليبية هو: متى تستقل أوروبا في قرارها السياسي والعسكري عن الولايات المتحدة.. على الأقل حيال أزمات حوض البحر المتوسط؟

بمنظور جغرافي - سياسي، يشكل الساحل الجنوبي للبحر المتوسط الساحة الخلفية للقارة الأوروبية، خصوصا لكل من فرنسا وإسبانيا وإيطاليا. ومبادرة الرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي، ورئيس الحكومة البريطانية، ديفيد كاميرون، لفرض حظر جوي على ليبيا، ودورهما المؤثر في إقناع الرئيس الأميركي باراك أوباما بجدواه وضرورته، يوحيان بأن أحداث ليبيا أعادت الروح إلى الدور الأوروبي الفاعل في منطقة البحر المتوسط، وإن في إطار حلف شمال الأطلسي. إلا أن تسلسل الأحداث بعد نجاح المبادرة الفرنسية - البريطانية أظهر أن تعاون الدولتين الأوروبيتين في ليبيا ليس أكثر من «ثنائية» عابرة حدودها العملية حلف شمال الأطلسي. أكثر من نصف قرن انقضى على آخر «تعاون» عسكري فرنسي - بريطاني شهدته المنطقة (بالتواطؤ مع إسرائيل) في ما عُرف بالعدوان الثلاثي على مصر عام 1956.

يومها، كان هدف هذا «التعاون» إسقاط نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. إلا أن أحد أهدافه الجانبية كان اختبار مدى تقبّل الحليف الأميركي الأقوى لمبادرة عسكرية أوروبية تقاد خارج إطار حلف شمال الأطلسي.

سرعان ما اختبرت بريطانيا وفرنسا هامش «استقلاليتهما» الضيق بمجرد أن وضع الرئيس الأميركي، دوايت إيزنهاور، حدا قاطعا له وألزمهما بوقف عملياتهما العسكرية، مرسيا بذلك تقليد التزام الغرب الأوروبي بالقيادة الأميركية لحلف الأطلسي.

ورغم أن الوضع في عهد الرئيس أوباما يختلف عما كان عليه عام 1956، ورغم أن انهيار المنظومة السوفياتية أبعد شبح الخطر المباشر على تماسك دول حلف الأطلسي، ورغم أن التجربة الأميركية لاحتلال دول عربية - إسلامية (العراق وأفغانستان) لا تشجع واشنطن على خوض مغامرة مماثلة في ليبيا - الأمر الذي أوحى به الرئيس باراك نفسه بتأكيده أنه ليس بإمكان الولايات المتحدة حل «كل» مشكلة تنشب في العالم، لا يزال «واجب» الانضواء تحت مظلة حلف شمال الأطلسي ساريا، إن لم يكن ملزما لدول الحلف قبل اتخاذها، أي يستتبع تحركا عسكريا، حتى ولو كانت الدول الأقرب إلى واشنطن.

العملية العسكرية في ليبيا كانت فرصة فرنسا وبريطانيا لإعادة الاعتبار إلى نكسة «استقلالهما» عن حلف الأطلسي عام 1956، وهذه المرة بموافقة أميركية يستوجبها انهماك البيت الأبيض بالتزامات عسكرية في مناطق أخرى من العالم يعتبرها أكثر أهمية استراتيجية من ليبيا، ويحفزها إدراك الرئيس أوباما أن الناخب الأميركي أوصله إلى البيت الأبيض لوعده بإنهاء حرب «ضرورة» في أفغانستان لا خوض حرب «خيار» جديدة في ليبيا. وهذا الحافز يصعب تجاهله قبل سنتين من موعد انتخابات الرئاسة المقبلة. وعليه، يصح اعتبار تخليه لبريطانيا وفرنسا عن مقعد القيادة العسكرية في ليبيا، وللمرة الأولى منذ «التقليد» الذي أرسته حرب السويس عام 1956، بمثابة «غسل يد» مسبقة من تداعيات هذه العملية على معركته الرئاسية في حال الاضطرار إلى خوض مواجهة عسكرية مباشرة في ليبيا.

ورغم أن البيت الأبيض يدرك ضمنا، وفرنسا وبريطانيا تعلمان أيضا، أنه بقدر ما «يشحب» اللون الأميركي في علم التحالف الغربي في ليبيا بقدر ما يزداد قبوله عربيا وإسلاميا، لا يزال «محظورا» على أي عضو في حلف شمال الأطلسي الخروج عن «بيت الطاعة».. وقطف أمجاد سياسية، ومكاسب اقتصادية طبعا، من أي «استقلال» ظرفي عن المظلة العسكرية الأميركية - العمود الفقري لقوة الغرب.