الزمن العربي الجديد: القضايا والمشكلات والاستراتيجيات

TT

عندما اجتمع ببريطانيا يوم الثلاثاء الماضي، ممثلو نحو أربعين دولة وجهة دولية وإقليمية؛ لتدارس مستقبل العمل على الساحة الليبية، كان همّ ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني، الحديث عن خطط المستقبل بعد ذهاب القذافي ونظامه. وبذلك فقد علل قيام «الإدارة السياسية» للتحالف، منفصلة عن الإدارة العسكرية التي تولاها حلف شمال الأطلسي، بالأسباب الاستراتيجية، متجاوزا الخلاف الفرنسي - التركي الذي كثر الحديث عنه طوال الأسبوع الماضي. وكأنما فاجأت صراحة البريطاني الرئيس أوباما، الذي كانت وزيرة خارجيته تحضر الاجتماع بلندن؛ فسارع للتعليق على اجتماع لندن، بأن الولايات المتحدة لن ترسل قوات أرضية، لأن القيادة سوف تكون لحلف الأطلسي وليس لها، كما أنها لن تكرر الأخطاء التي ارتكبت بالعراق لجهتي: الغزو الأرضي والاحتلال، وتفكيك الدولة ومؤسساتها. وهكذا فهدفها بليبيا ليس إسقاط القذافي؛ بل مساعدة الشعب الليبي على الوصول إلى مخرج آمن في تحول ديمقراطي يختاره ذاك الشعب ويسير فيه! والواقع أن الخلاف التركي مع الفرنسيين، الذي كان ظاهره الانزعاج من التدخل العسكري، والمساعدة المباشرة للثوار على نظام القذافي، كان للسبب نفسه الذي تحدث عنه البريطاني كاميرون: مستقبل ليبيا المرتبط بمنطقة جنوب المتوسط، والمرتبط بأفريقيا. فتركيا دولة إسلامية كبرى، وهي الوحيدة من بين دول العالم الإسلامي، في التحالف الأطلسي. وهي استنادا إلى هذه الهوية وهذا الانتماء، واستنادا للنجاح الديمقراطي والاقتصادي لنظامها، ترى من حقها أن تمثل العالم الإسلامي في عمليات التدخل لتحديد مستقبل ليبيا. ويستحسن أن لا ننسى النصائح الخشنة التي وجهها أردوغان للرئيس مبارك، ثم زيارة وزير خارجيته أحمد داود أوغلو لمصر واجتماعه بمسؤوليها الجدد قبل أسبوعين. وها هو يوجه نصائح مختلفة في الأسلوب، لكنها مشابهة في المضامين، للرئيس السوري بشار الأسد. وهو لا يعلل إقدامه على النصح الملحاح بالتحالف «الاستراتيجي» القائم بين البلدين؛ بل إن لتركيا حدودا مع سورية طولها ثمانمائة كيلومتر، وأن المنطقة تمر بتحولات ديمقراطية تاريخية لا يجوز أن تبقى سورية خارجها. على أن نموذجية تركيا بالنسبة للغرب، وقوتها التمثيلية في العالم الإسلامي، لا تقتصر على النجاح الاقتصادي، وعلى ثبات المؤسسات الدستورية الديمقراطية؛ بل هناك الحزب الحاكم حاليا الذي فاز في الانتخابات منذ عام 2003، رغم أنه، أو بسبب أنه: حزب إسلامي! ولذا فإن دعوة أردوغان المتحمسة للإصلاح، تتضمن أيضا الاعتراف بالإسلاميين بالدواخل المصرية والسورية والتونسية.. إلخ، فكلهم حلفاؤه، وله صلات بهم؛ وهو يقدمهم لأوروبا والولايات المتحدة بوصفهم معتدلين ويقولون بالديمقراطية. وقد أثار هذا الأمر بالذات جنون الأنظمة العربية بمصر وتونس وسورية، التي اعتمدت خلال العقدين الأخيرين على تصوير الإسلاميين بوصفهم بعبعا لا يمكن الاطمئنان إليه وهو سوف يسيطر إن ذهب الحكام الخالدون في الجمهوريات الوراثية! فإذا كانت فرنسا مهتمة بليبيا لأنها في قلب «جنوب المتوسط»، ولأن لها مصالح فيها بسبب ثرواتها في النفط والغاز، وبسبب علائقها الوثيقة والمتداخلة مع أفريقيا الفرنسية وأفريقيا البريطانية؛ فإنها مهتمة أيضا بأن يكون لها السبق إلى هذا الموقع المهم في الزمن الجديد والعصر الجديد، لدلالته الحاضرة والمستقبلية على الترتيبات التي ينبغي اتخاذها، وينبغي قبل ذلك الحضور فيها لكي لا يستطيع الأميركيون التجاهل أو التجاوز!

فليبيا ذات الستة ملايين، تزيد مساحتها على المليون ونصف المليون كيلومتر مربع، ولها شواطئ على المتوسط تمتد لألفي كيلومتر، وهي داخلة بعمق ثلاثة آلاف كيلومتر بالقارة الأفريقية، ولها حدود بست دول أفريقية بالقارة السوداء إضافة إلى مصر وتونس. ثم إنها غنية وغنية جدا بالنفط والغاز. وقد احتجزها العقيد القذافي واحتجز دورها على مدى أربعة عقود، ومر بأربع مراحل؛ الأولى نشر الاضطراب في دول الجوار العربي، والثانية نشر الاضطراب في دول الجوار الأفريقي، والثالثة محاولة الخروج من الحصار بعد أن فرضته عليه الأمم المتحدة لقيام نظامه بأعمال إرهابية، ودعم تنظيمات إرهابية. والرابعة في السنوات الأخيرة، محاولات التلاؤم مع النظام الدولي أولا، ومع العرب والأفارقة ثانيا.

إن ثبات نظام القذافي (وبخاصة في السنوات العشر الأخيرة)، لا يعود إلى مخلفات الحرب الباردة، ولا إلى صداقته لبرلسكوني وساركوزي، ولا إلى جمال ابنه سيف الإسلام وفتنته المشهودة؛ بل لثلاثة أسباب بارزة: مساندته للغرب في الحرب على الإرهاب، ومساندته للدول المتوسطية في مسألة الهجرة من الدواخل الأفريقية، وإعطائه امتيازات وعقودا بعشرات البلايين للأوروبيين والأميركيين؛ وقد قال الرئيس أوباما إنه جمد أموالا للقذافي بنحو الـ35 مليار دولار، وهذا في الولايات المتحدة، فكيف بأوروبا وبالبلاد العربية والأفريقية؟! وهناك السبب الرابع (وربما كان الأهم)، الذي كان بين علل ثبات نظام القذافي، وهو اليوم سبب بين أسباب تضاؤله وزواله. فإلى وقت قريب ما كان هناك تعاون بين أطراف النظام الدولي، بسبب آيديولوجيا المحافظين الجدد الذين يريدون الانفراد بالهيمنة. بيد أن تطورات وسائل الاتصال والتقنية، ووجود العوامل والأدوات السوقية والاستراتيجيات، فتح الأفق في منطقتنا على ضرورات قيام الدول والأنظمة الحديثة والديمقراطية بأفريقيا والشرق الأوسط. وهكذا فحتى مشروع تقسيم السودان الذي يوشك أن يتحقق ما عاد أحد متحمسا له، كما أن أحدا من جهة أخرى ما عاد متحمسا للأنظمة الاستبدادية المغلقة والفئوية، بحجة حماية الاستقرار أو حماية مصالح الغرب أو العلمانية والهروب بين الإسلام والأصولية! وهكذا كان لا بد من الإصغاء للمطالب الشعبية بإقامة أنظمة ديمقراطية منفتحة تضمن الاستقرار أكثر بكثير مما تضمنه الأجهزة الأمنية المخوفة في الأنظمة الاستبدادية.

لقد كان يمكن للعراق أن يكون النموذج على مشارف القرن الحادي والعشرين، لبلد عربي ديمقراطي متعدد وعريق ورفيع الثقافة. بيد أن الانحشار بين إيران وتركيا، والمشكلة الكردية، ونظام صدام حسين المدمر، ثم الغزو الأميركي؛ كل ذلك هدم الدولة وقسم الشعب إلى فئات متنابذة. ولذا فإن الفرصة بالمشرق العربي متاحة الآن لسورية ذات الوحدة الشعبية المشهودة، والوطنية العريقة، والإقبال على التنمية والبناء. ليست في سورية أو أمام سورية غير عقبتين: إسرائيل واحتلالاتها وتوتراتها، والنظام المسدود بحكم الطبيعة أو بحكم الواقع. وهذه الفرصة تشمل النظام، وتشمل البلاد، التي ستتقدم من دونه إن تعذر عليه الإقدام كما ينصحه أردوغان. هذا في منطقة شرق المتوسط، حيث كان الأمل بلبنان منذ أكثر من قرن، وهو يتراجع منذ مدة، لصالح سورية، التي تقدمت من قبل بسبب الوظيفة، أو الوظائف، وهي توشك أن تتقدم الآن بسبب الطبيعة والتأهل.

أما ليبيا التي اعتبرها إيف لاكوست في كتابه «الجغرافيا السياسية للمتوسط» (2007) قلب منطقة جنوب المتوسط من الناحية الجغرافية، وإنما يعوق دورها وتقدمها النظام أو اللانظام الذي يسود فيها؛ فإنها تقع في مقدمة الصورة الآن، وليس من الضروري أن يكون ذلك خيرا لها في المدى القصير، لكنه تغيير شامل واستراتيجي يتناول المنطقة العربية. وإذا كان وزير الدفاع الأميركي يزعم أنه لم يحصل مثله منذ نهاية العصر العثماني، ومحمد حسنين هيكل يزعم أنه لم يحصل مثله في سائر عصور مصر الألفية؛ فإن الأمر يختلف في أي عملية تغييرية من حيث الشكل، والهدف، والقوى المشاركة، والنتائج شبه النهائية. ونحن الآن لا نستطيع أن نميز مبدئيا غير «الشكل»، وهو جديد بالفعل، أما الأمور الأخرى فتحتاج إلى متابعة مستمرة، لأنها «عملية» وليست حدثا منعزلا له بداية ونهاية.