أنقرة وأربيل.. فرصة ذهبية لحوار فضي

TT

بدا رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وكأنه يريد أن يظهر على مسرح السياسة التركية بمظهر من يمسك العصا من الوسط مقدما شكلا جديدا من الوسطية. السياسة الخارجية التركية التي خطها أردوغان تبلورت عبر ذهابه في اتجاه الشرق الأوسط – منها زيارته الأخيرة قبل أيام إلى إقليم كردستان العراق - بعكس تحركات أسلافه التي كانت ترمي إلى الالتحاق بمجموعة الاتحاد الأوروبي.

أردوغان السياسي المحنك شرع في بناء سياسة بلاده من الشرق الأوسط لينطلق إلى أوروبا، فإذا نجح في إقناع الفلسطينيين والإسرائيليين في التوصل إلى سلام، يكون في استطاعته صيانة المصالح التركية من منظار صيانة المصالح الأميركية المفترضة، لأن استقرار أنقرة يعتبر أجندة أميركية ثابتة بناء على التغيرات الجيوسياسية في المنطقة.

أما عن الانفتاح التركي على كردستان العراق، فهنا تجب الإشارة إلى الجهود الناجحة والنوعية التي بذلها نيجيرفان بارزاني رئيس حكومة كردستان في التشكيلة الحكومية الخامسة في تقوية العلاقات الدبلوماسية والتجارية بين أربيل وأنقرة وبنائها على أسس متباينة ومصالح مشتركة.

يقول هنري باركي الباحث الأميركي المتخصص في الشؤون التركية من معهد «كارنيغي» للسلام الدولي في معرض تحليله للزيارة التاريخية الأخيرة لرئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني إلى تركيا: «هذه الزيارة التاريخية التي كانت غير متصورة منذ بضع سنوات أظهرت إلى أي مدى تغيرت السياسة التركية إزاء أكراد العراق والاستراتيجية التركية بشأن العراق. شخص كان يشار إليه فقط على أنه زعيم قبلي يستقبل الآن بكرامة». وهذا يعني أن أردوغان في إطار السياسة العامة التي وصل البعض إلى تسميتها «العثمانية الجديدة» تفهم أن تركيا يمكنها أن تمارس نفوذا في العراق وأن تشكل توازنا مع النفوذ الإيراني من خلال تعزيز العلاقات مع الأكراد وأن أميركا تهتم بالمسألة الكردية لتلافي النزاعات السياسية التي تشكل متاعب جمة لواشنطن، فعدم الاستقرار السياسي سوف يؤثر على سحب القوات الأميركية وستكون له نتائج كارثية على مصالح واشنطن مع مراعاة الحساسية التركية تجاه النجاحات الكردية في العراق.

وتكمن المشكلة من كون تركيا منغلقة على نفسها بسبب عدم قدرتها على مواجهة وحل التحدي الكردي سلميا، وبالتالي، لن تكون قادرة على لعب دور بناء في الشرق الأوسط أو الانضمام للاتحاد الأوروبي، مع ملاحظة أن سياسة تركيا الجديدة تجاه العراق تحتوي على عناصر دفاعية وتوسعية؛ دفاعية بقدر كونها لا تزال تبنى على أساس برنامج لاحتواء القومية الكردية - وقد كان هذا دائما موضع قلق أنقرة الأول بصورة يرجع تاريخها إلى عام 1926 حين وافقت تركيا على اندماج الموصل في العراق -.. وتوسعية لأنها تسعى إلى تحقيق أقصى قدر من التأثير التركي في جميع أنحاء المنطقة.

وفي الواقع، لم يقم حزب العدالة والتنمية في السنوات الأولى من حكمه إلا بالقليل تجاه المسألة الكردية (بالمعنى الواسع) حين اعترف أردوغان وأمام الجماهير في الخطاب الذي أطلقه عام 2005 في مدينة ديار بكر بأن الكرد لم يعاملوا معاملة طيبة خلال تاريخ الجمهورية التركية، وبدأ أردوغان حملته الرسمية الأولى في القضية الكردية بكلمة وجدت استقبالا جيدا، اعترف فيها بأن «المسألة الكردية» أكثر من مجرد الحرمان الاقتصادي، وأن تركيا ارتكبت العديد من الأخطاء تجاه الأكراد. ومع ذلك، لم يتمكن أردوغان من الحفاظ على زخم ملاحظاته لأنه كان يواجه مناخا صارما في أنقرة، خاصة داخل المؤسسة العسكرية، حيث كانت المسائل الآيديولوجية وحقوق الأكراد من المحرمات. علما بأن التوقعات التي أثارتها خطاباته تبخرت في وقت قريب لوجود شعور عميق بالتعب والإجهاد – والبغضاء أحيانا - نتيجة الحروب الطويلة بين مقاتلي حزب العمال الكردستاني والأتراك.

وفي شرق البلاد وفي المنطقة الكردية تحديدا، صار هذا الشعور عميقا جدا؛ فقد كان «العمال الكردستاني» يتعرض لضغوط مباشرة تحضه على الوسائل السلمية، فالمواطنون صاروا أكثر ميلا للعمل السياسي في التعبير عن آرائهم، واتبعت أنقرة في البداية السياسة التقليدية التي تؤكد على الطبيعة الإرهابية للمقاتلين في سبيل المسألة الكردية بتركيا وعدم شرعية حكومة إقليم كردستان في العراق، في حين ينظر إلى كرد العراق على أنهم لاعبون أساسيون في نسيج الدولة العراقية بسبب الدور الكردي الحاسم في بغداد.

أما اليوم، وفي حالة نشوء النزاعات بين بغداد وأربيل حول توظيف السياسة الخارجية وصلاحيات الإقليم و«تصدير» النفط، فهذه المعادلة تضع أنقرة في وضع صعب. فإذا أصرت حكومة كردستان على تصدير النفط عبر تركيا فقط في حين كانت بغداد تفضل خيارات غير تركية، فإن تركيا ستكون أكثر إيجابية وفي مصلحتها الانحياز إلى أربيل أكثر من بغداد، لأن تطوير المشاريع التجارية وطرق البترول بين تركيا والعراق، وكردستان تحديدا، مصلحة مباشرة لواشنطن. يقول سونر جاغابتاي، وهو مدير الأبحاث التركية في معهد واشنطن، إن «التقارب التركي مع حكومة كردستان ومع بغداد سياسة مربحة. ذلك أمر نادر الحدوث في الشرق الأوسط، ويشكل الأسباب التي يتعين على أردوغان أن يتوقع عليها الثناء من الرئيس أوباما. ليحقق إنجازا سياسيا لتركيا تصبح معه صاحبة حضور دولي قوي (وهذا ما يبحث عنه أردوغان في عقله الباطني) ليترجم على أرض الواقع».

وخلاصة القول: أمام أردوغان مهمات جسام؛ فهو أمام امتحان صعب، وأي تقارب بينه وبين إقليم كردستان يجعله يكسب نقاطا إضافية عند إدارة أوباما.

*كاتب وباحث كردي عراقي