إهداء (لنصرة بنت عبد الرحمن بن علي)

TT

إنني أنتمي لقرية أو بلدة أو مدينة في أواسط الجزيرة العربية يقال لها (الغاط) مثلما ينتمي لها (بلدياتي) رئيس تحرير هذه الجريدة، وقد وصلتني هدية هي عبارة عن ستة مجلدات من (فايز البدراني الحربي) بعنوان وثائق (الغاط)، وفيها ما لا يقل عن ألفي وثيقة مصورة مكتوبة بخط اليد.

وأرجو أن لا تظنوا أنها تضاهي وثائق الحرب العالمية الثانية، ولا حتى وثائق (أيمن الظواهري)، ولكنها كلها وعن بكرة أبيها ما هي إلا عبارة عن حياة أناس بسطاء عاشوا قبل ما يقارب (300) سنة، وكلها تتعلق بالوصايا والأوقاف والهبات والمبايعات والمخاصمات والعقود، وهي تعكس ببراءة حياة البؤس والفقر المدقع التي كانت تعيش فيها تلك البلاد، وكل تلك الوثائق مكتوبة بخط أناس هم بالكاد يفكون الحرف وفيها من الأخطاء الإملائية ما لا يعد ولا يحصى، وقد أخذت منها عشوائيا وأنا مغمض الآتي:

أن (عبد الله بن دواس) قد أوصى من ثلث نخلة بثلاث ضحايا له واحدة، ولأمة واحدة، ولأبيه واحدة، ويأخذ من جلودهن قرب تعلق في المسجد الجامع تكون سبيلا للشاربين، ومن حصيلة النخل تؤخذ مائة وزنة تمر تقسّم في رمضان على المساكين، والولي على ذلك هي (نورة بنت حسين). وفي هذا إشارة إلى تولية المرأة في ذلك الوقت على نظارة الأوقاف وتنفيذ الوصايا، وأنها كانت تقوم بدور اجتماعي لا يقل عن دور الرجل في هذا المجال.

كما أن هناك امرأة أخرى يقال لها (تركية بنت إبراهيم العواد) قد أوصت (بمواعينها) للمحتاجين، وهي عبارة عن قدر كبيرة، وصفرية، ومثعوبة، ومقرصة، ومجّرشة، ومسحاة كانت قد ورثتها من زوجها، وهذه الأخيرة لا تعطى إلا لفلاح محتاج ليس لديه مسحاة.

بل إن (مرزوق بن عضيدان) قد باع نخلته (الخضرية) وقبض ثمنها المعلوم، وشهد على ذلك عشرة من الشهود وذلك عام 1153 هجرية - كل هؤلاء الشهود العشرة من أجل مبايعة نخلة واحدة - تصوروا (!!). ولا ننسى (سلمى بنت عبد الله الجاسر) التي تقول الوثيقة: إنها في كامل صحتها وعقلها قد باعت نصيبها من ملك العقار المسمى (بالجريف) بجميع حقوقها الداخلة والخارجة بما فيها البير على (محمد بن ملحم) بثمن قدره (ريال فرانسي واحد وثلاثة قروش) - يا بلاش - وأدهى وأمر من ذلك أن أحد أقاربي ويقال له: (عبد الله بن علي السديري) قد باع داره كاملة وهو مثلما تقول الوثيقة أيضا كان بكامل صحته العقلية والبدنية، وقد باع الدار إلى (عبد العزيز بن علي الحصين) لقاء بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين - ولو أنني كنت مخلوقا وقتها لقلت له: «أرجوك يا عمي لا تبيع الدار بأقل من ثلاث بقرات ونص». ولو أنني أنسى فلا يمكن أن أنسى (نصرة بنت عبد الرحمن بن علي) التي اشترت بحُر مالها عبدا ثم أعتقته لوجه الله وكذلك لجدتها (شايعه الحسينية)، وكان ثمن العبد هو أحد عشر ريالا، وفوق ذلك تبرعت بمصباح زيتي للمسجد، وأيضا بمصحف واشترطت على إمام المسجد لقاء ذلك أن يعلم أبناءها القراءة والكتابة اللتين حرمت منهما. والغريب في الأمر أن أولئك القوم المساكين كانوا يظنون أن الدنيا تكاد أن تكون دائمة لهم ولعيالهم، والدليل على ذلك أن (عبد الله بن سليمان) قد أجر أرضه لـ(سليمان بن إبراهيم بن فداغ) لمدة (مائة وخمسين) سنة معلومة (!!).

وزاد على ذلك من حيث طول النفس والتفاؤل (عبد الله بن حمد بن رزق) الذي أجّر نصيبه من الأرض المسمّاة (المفرحيّة) لـ(علي بن راجح) لمدّة (200 سنة) لقاء إيجار سنوي قدره (خمسة حمران) - وهي عملة عثمانية قديمة -، وعندما حسبت المدّة من تاريخ توثيق المكاتبة وجدت أنها تنتهي في عام (1439) هجرية، أي بعد سبعة أعوام من الآن، ولا أدري هل بقي هنالك أحد من عائلة (بن رزق) ليطالب بالإيجار، أم أنهم كأكثر العوائل في ذلك الوقت الذين قضى عليهم السل والجدري والطاعون؟!

إن ما ذكرته إنما هو نافذة (مواربة خجولة) تلقي بصيصا من الضوء على ما كان يعيش فيه أبناء الجزيرة العربية من الفاقة والعوز والجهل والكرامة كذلك.

[email protected]