«المضامين التنويرية».. في نهضة الملك عبد العزيز

TT

«إن شرعية هذه الدولة هي في منهجها وتاريخها الطويل الذي بدأ ببيعة شرعية على الالتزام بالدين الصحيح منهجا ومسلكا في الحكم والبناء السياسي والاجتماعي وليس في حادثات الفكر المستورد أو التخبط الفكري الذي لا نهاية لجدله، ولا فائدة منه (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)».. هذه فقرة ختم بها الأمير سلمان بن عبد العزيز محاضرته التي ألقاها في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الأسبوع الماضي عن «الأسس التاريخية والفكرية للدولة السعودية» ولقد عرف عن الأمير شغفه العميق والمتجدد بالتاريخ البشري بوجه عام، والتاريخ العربي الإسلامي بوجه خاص والتاريخ السعودي بوجه أخص.. وفي محاضرته هذه: ركز على ربط الدولة السعودية - في أطوارها جميعا - بأصولها ومنابعها العقدية والتشريعية والفكرية.. وكانت الفقرة الآنفة من محاضرته نموذجا من هذا التركيز.

وليست تذكر الدولة السعودية إلا ويذكر - بداهة - النموذج الأكبر الذي بناه الملك عبد العزيز والذي امتد بأثره الطيب والعميق في الزمن حتى يوم الناس هذا.

ثم إن هذا النموذج الذي ذكرنا به الأمير سلمان مشكورا: ينبغي أن تستفيض الدراسات العلمية والفكرية فيه وحوله من حيث هو إضافة سياسية وفكرية وحضارية «أنجزت في القرن العشرين» تضاف إلى التاريخ العربي، والحضارة الإسلامية.

وكاتب هذه السطور معجب - إلى درجة الانبهار - بنموذج الملك عبد العزيز، وذلك لعدة أسباب، ومن بينها، أو في طليعتها:

أولا: قدرة هذا الزعيم المصلح - بعون الله - على مغالبة الظروف العصيبة، والصعاب الهائلة، والنفاذ من خلال عصفها وغبارها إلى ما يريد من إصلاح وبناء ونهضة.. فعلى المستوى المحلي أو الوطني كانت الأحوال بالغة التعقيد والتثبيط: الجهل والفرقة وانعدام الأمن والصراعات الصغيرة التافهة وفقدان المنهج وأفول الأمل الخ.. وعلى المستوى الإقليمي والعالمي، كان الاضطراب هو سيد الموقف: الاضطراب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري. وكان الاستعمار قد جثم على معظم الأقطار العربية والإسلامية بعد أن مزقها تمزيقا ونهب خيراتها ومواردها وأذل أبناءها أيما إذلال.. وعلى الرغم من ذلك كله - محليا وإقليميا وعالميا - سَبَح هذا الزعيم العربي المسلم ضد التيار مسبحا طويلا قويا مثابرا واستطاع - بعون الله - أن يقود سفينته إلى المرافئ الآمنة.

ثانيا: ثاني أسباب الإعجاب بنموذج الملك عبد العزيز هو أنه بنى «نهضة تقدمية» ذات منهج واضح في مرجعيته ومصدره وبواعثه ومقاصده.

حسب زعيم من النجاح، أن يجتنب العواصف، ويغالب الأنواء وهو يقود سفينته إلى البر الآمن.. أما أن يضيف إلى هذه المهمة الصعبة «رؤية تقدمية» في العمل والبناء. فإن هذا هو النجاح «النادر» أو «الفريد».

ونختصر هذا السبب الثاني في عبارة مجملة - سيفصلها باقي السياق - وهذه العبارة هي «المضامين التنويرية في نهضة الملك عبد العزيز».

وبما أنه من صميم التنوير أن يكون الكلام موضوعيا عقلانيا موثقا بالوقائع والبراهين، فإن من حق العقلاء أن يسألوا: ما الدليل على هذه المضامين التنويرية في نهضة الملك عبد العزيز؟

هذه هي الأدلة والوقائع:

1) الأدلة من الفلسفة القولية للملك عبد العزيز. فقد قال: «إنني أرى أن من واجبي ترقية جزيرة العرب، والأخذ بالأسباب التي تجعلها في مصاف البلاد الناهضة مع الاعتصام بحبل الدين الإسلامي الحنيف».. فمن أولويات هذا الرائد التنويري ترقية جزيرة العرب. وهذا انحياز مطلق للتقدم والرقي، وهو انحياز متناغم - في منهجه ورؤيته - مع الاعتصام بالإسلام.. وبديه أن الملك عبد العزيز لم يستمد مفهومه التقدمي التنويري من الماركسية، ولا من الفلسفات القومية والعلمانية التي كانت رائجة سائدة يومئذ، وإنما استمد مفهومه العميق الجميل من الإسلام، ومن مدنيته العظمى بدليل قول الملك نفسه: «إن المدنية الإسلامية التي سطع نورها في العالم وكانت أساسا لنهضات الأمم الأخرى لم تكن مدنية مزيفة تقتصر على الزينات والماديات. وإنما كانت مدنية علم وعمل وحث المسلمين على التمسك بالشريعة السمحة».. ودوما يقترن التقدم الرشيد في الدنيا بالالتزام بالدين في منهج الملك عبد العزيز.. وهذا حق صدعت به آية القصص: «وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك».

2) ومن الأدلة «التطبيقية» على المضامين التنويرية في نهضة الملك عبد العزيز، احتفاء الملك المؤسس بـ«الشورى» احتفاء إسلاميا «عصريا» مستنيرا وعمليا. فقبل نحو 80 عاما - تقريبا - قرر الملك عبد العزيز تطبيقا عصريا لمبدأ الشورى الإسلامي (الذي ترك تطبيقه في كل عصر وبيئة لاجتهاد المسلمين حيث لا توجد صورة توقيفية معينة لتطبيق هذا المبدأ).. نعم. قبل ثمانين عاما، وبعد دخوله مكة المكرمة مباشرة: دعا نخبة من العلماء والأعيان في مكة المكرمة وقال لهم: «أريد منكم أن تعينوا وقتا، تجتمع فيه نخبة من العلماء والأعيان والتجار، وينتخب كل صنف من هؤلاء عددا معينا، كما ترتضون وتقررون، وذلك بأوراق تمضونها من المجتمعين بأنهم ارتضوا أولئك النفر لإدارة مصالحهم العامة، والنظر في شؤونهم. ثم يستلم هؤلاء الأشخاص زمام الأمر فيعينون لأنفسهم أوقاتا يجتمعون فيها، ويقررون ما فيه مصلحة البلد، ويكونون أيضا الواسطة بين الأهلين وبيني.. إنني أريد ممن سيجتمعون لانتخاب الأشخاص المطلوبين، أن يتحروا المصلحة العامة ويقدموها على كل شيء، فينتخبوا أهل الجدارة واللياقة الذين يغارون على المصلحة العامة، ولا يقدمون عليها مصالحهم الخاصة، ويكونون من أهل الغيرة والحمية والتقوى.. تجدون بعض الحكومات تجعل لها مجالس للاستشارة، ولكن كثيرا من تلك المجالس وهمية، أكثر منها حقيقية، تُشكَّل ليقال: إن هناك مجالس وهيئات، ويكون العمل في يد شخص واحد، وينسب العمل إلى العموم. أما أنا فلا أريد من هذا المجلس الذي أدعوكم لانتخابه أشكالا وأوهاما، وإنما أريد شكلا حقيقيا يجتمع فيه رجال حقيقيون يعملون جهدهم في تحري المصلحة العامة.. وأريد الصراحة في القول لأن ثلاثة أكرههم ولا أقبلهم: رجل كذاب يكذب علي عن عمد.. ورجل ذو هوى.. ورجل متملق. فهؤلاء أبغض الناس عندي.. وأرجو بعد المجلس أن تجتمعوا بالسرعة الممكنة، بعد أن تنظموا قائمة بأسماء الذين يجتمعون، من كل صنف من الأصناف الثلاثة لأقابلها على القائمة التي عندي، فأتحقق من أن جميع أهل الرأي اشتركوا في انتخاب المطلوبين».

3) البرهان الثالث على هذه المضامين التنويرية هو «الانفتاح على العصر والعالم» في غير جمود يعطل المصالح، ولا ذوبان يميع المبادئ. فالمظنون - جهلا - بالدولة الإسلامية أنها دولة منغلقة ذات علاقة متوترة مع العالم، على حين أن الدولة التي تفهم الإسلام على حقيقته تحقق أهدافها وأهداف الأسرة البشرية من خلال توغلها الواثق في النسيج العالمي: أخذا وعطاء وتبادلا وتعاونا. وكذلك كانت نهضة الملك عبد العزيز التي تبنت مضامين تنويرية في علاقتها بعالمها وعصرها. وهي مضامين انبهر بها وعبر عنها مفكرون كبار: كشكيب أرسلان، ومحمد البشير الإبراهيمي، وعبد الرحمن عزام وأمثالهم.