الإصلاحات تلغي الثورة.. والعكس

TT

مجلس العموم البريطاني هو أقدم البرلمانات المنتخبة مباشرة من الشعب في أكثر أمم الأرض استقرارا وديمقراطية، بحيث إن جميع وزراء الحكومة تقليديا (لا يوجد دستور مكتوب) منتخبون، كأعضاء برلمان يتعرضون للمساءلة يوميا. بل إن وزراء حكومة الظل، من حزب المعارضة، بميزانية متوازية، هم أيضا مسؤولون أمام البرلمان.

ولا يمكن لرئيس الوزراء أو أحد الوزراء، أن يصدر قوانين أو أوامر وزارية، رغم أنهم منتخبون من الشعب الذي صوت على برنامج الحزب الذي أصبح سياسة الحكومة، ومع ذلك فإن ديمقراطية الفصل بين السلطات (التشريعية، والتنفيذية، والقضاء) تعني أن عضوية الوزراء في البرلمان لا تعطيهم صلاحية كسلطة تنفيذية في إصدار قوانين، لأن ذلك من اختصاص السلطة التشريعية، أي البرلمان.

وهناك لجان برلمانية - من جميع الأحزاب حكومة ومعارضين - لدراسة كل القضايا واستجواب الوزراء، وحتى مديري البنوك. إحداها لجنة الإجراءات البرلمانية، المتخصصة في تحديد الإجراءات المعتادة المعقدة التي تم توارثها عبر أكثر من ثمانية قرون، ومواعيد بدء الجلسات يوميا (وهي لم تتغير منذ قرنين، باستثناء الطارئة)، وتغييرها بعد الدراسة والفحص يتم فقط بعد مناقشتها في الجلسات وتصويت المجلس عليها.

اللجنة قبل انعقادها القادم الاثنين 4 أبريل (نيسان)، وزعت على النواب - وعلينا مجموعة الصحافيين البرلمانيين الموجودين بصفة دائمة في مبنى البرلمان - استمارة من 11 فقرة وإجراء، بمقترحات حول دور النائب البرلماني في العصر الحديث، وكيف تغيرت صفاته ومواصفاته والمتوقع منه، وكيفية تطوير عمل البرلمان وإمكانية تغيير ساعات الحضور (خاصة بعد ازدياد عدد النساء الأعضاء إلى أكثر من مائة وعشرين، معظمهن أمهات وربات بيوت يصعب عليهن البقاء لما بعد منتصف الليل أيام الاثنين والثلاثاء والأربعاء).

ما أردت مشاركة القراء فيه هو فكرة أن أقدم ديمقراطيات الدنيا وأكثرها استقرارا، لا تزال تطور ممارستها الديمقراطية، وتبحث عن مقترحات التطوير الديمقراطي من السلطتين التشريعية والتنفيذية (باعتبار أن الحكومة كلها من نواب منتخبين في مجلس العموم أو يحاسبون في مجلس اللوردات، كالبارونة سعيدة فارسي أول امرأة مسلمة في مجلس الوزراء)، ومن السلطة الرابعة، وبالتحديد ذراعها البرلمانية.

أقدم ديمقراطية برلمانية لا تكتفي بأنها أفضل أمم العالم وأكثرها تطورا في مجال الديمقراطية ومساواة الجميع بلا استثناء أمام القانون، بل تسعى للتطور باستمرار، رغم أن البلاد تتعرض لخطر الإرهاب، وزوار البرلمان تتعرض حقائبهم لأشعة إكس بنفس أجهزة المطارات، لأنهم يرون المزيد من الديمقراطية كأهم درع ضد الإرهاب.

استقراء آراء التطور الديمقراطي في بريطانيا يتواكب مع مآسي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

ونرى زعيما لم ينتخبه أحد في ليبيا، استولى على السلطة بانقلاب عسكري، كغالبية جمهوريات الشرق الأوسط، يواجه شعبه بالمدافع والدبابات والطائرات لأنهم يطالبون بحقهم الطبيعي في انتخاب من يمثلهم. ونرى تحركات مماثلة في عدد من بلدان المنطقة.

بحث مجلس العموم عن مقترحات التطور الديمقراطي والإصلاح، من مفهوم أن استمرار الإصلاحات الدستورية والبحث عن عدالة أفضل هو درع الأمة ضد الثورات. فغياب الإصلاحات وغياب الديمقراطية يؤدي حتما إلى الثورات، وقد يؤجل القمع الوحشي موعد بداية تفجر الشرارات الأولى للثورة، لكنه لا يلغيها من الحسبان، بل يجعلها أكثر غضبا، لأن القتل الجماعي للمتظاهرين على أيدي أجهزة الأمن يترك في الذاكرة والضمير الجماعيين للأمة جرحا عميقا يتحول إلى وقود مستمر لأيام الثورة الشعبية.

ولعل أكثر التناقضات التي خيبت آمال الإصلاحيين، في سورية، ومنطقة الشرق الأوسط والعالم، هو مصادفة وتزامن التطور البرلماني البريطاني مع إضاعة النظام السوري لفرصة تاريخية لا تعوض..

فرصة داخلية وخارجية..

خارجيا، فرصة إصلاح صورة «البعث» في أدمغة المؤرخين والمعلقين كحزب بميول فاشية (والكلام ليس من عندنا بل من تعريف القواميس ودوائر المعارف ومراكز الأبحاث لآيديولوجية حزب صاغه مؤسساه، ميشيل عفلق وصلاح البيطار، حسب أدبياتهما، متأثرين بموسوليني والفاشية الإيطالية)، خاصة بعد فظائع «البعث» العراقي في عهد صدام حسين وإبادة قرى بالغاز السام.

وداخليا، بتقديم أول نموذج في المنطقة لجمهورية عربية تتحول من أوتوقراطية الانقلاب العسكري، إلى النظام البرلماني بحكومة كل وزرائها منتخبون من الشعب. وكان الناس سينظرون إلى رئيس دولة شاب، على أنه أبو الإصلاح، ومبتكر التحول من عسكرتارية أوتوقراطية مغلقة، إلى دولة مؤسسات ثابتة وحكومة منفصلة عن الدولة يعاد انتخابها، أو غيرها في كل دورة برلمانية.

بل إن هذا الإصلاح كان سيجعل من الرئيس السوري بطلا في التاريخ الشعبي للأمة السورية، وكان سيعاد انتخابه بعد انتهاء الفترة في انتخابات حقيقية غير مزيفة، لسبب منطقي بسيط، هو أنه سيكون البطل الإصلاحي رقم واحد المحبوب لدى الشعب، خاصة أن المظاهرات الشعبية كانت تعني فقدان الشعب الثقة في النظام ورجاله ونسائه ورموزه، ويكون الرئيس الذي قدم مشروع الإصلاح هو البطل بلا منافس أو شريك يهدده في الانتخابات.

وكان سيضمن أن يكون أول رئيس نظام جمهوري عربي ينتخب مباشرة، بلا تزييف، وبلا محاصصة طائفية تحرم ملايين من أبناء الأمة من الترشح للمنصب، أو محاصصة طائفية تعمق الانقسامات.

بعد الاستماع للخطاب المؤجل عدة مرات، والمنتظر، لبرلمان دمشق (ويصعب عدم القهقهة بصوت عال للمفهوم البرلماني هنا) لا يكاد المرء يصدق أذنيه أو حواسه من إضاعة الفرصة والاستمرار في قراءة نص السيناريو نفسه المكرر في تونس والقاهرة: مظاهرات احتجاج تطالب بالإصلاح - خطاب الرئيس يحذر الشعب من الفتنة - مزيد من المظاهرات ومزيد من القمع - إقالة الرئيس للحكومة - مزيد من المظاهرات - خطاب آخر - مظاهرات أكثر غضبا تصيح «ارحل.. ارحل» - تنحي الرئيس - مصير غير معلوم للبلاد.

أو يبدو أن الأسطورة التي اخترعها المنظرون القومجيون لتحويل أنظار الشعوب عن حاجاتها ومطالبها وقضاياها (أسطورة تهديد إسرائيل ولا صوت يعلو فوق صوت معركة وتحرير فلسطين، وهو الشعار الغائب تماما عن مطالب المصريين والتوانسة والليبيين واليمنيين في ثوراتهم)، قد صدقها النظام السوري. وها هو يتهم إسرائيل بأنها استأجرت عملاء في سورية للتظاهر لإسقاط النظام!

ولماذا يكلف الإسرائيليون أنفسهم الجهد والمال لإسقاط نظام ظلت حدودهم معه أهدأ الحدود وأكثرها سلاما وأمنا، ولم يحدث أي خرق لاتفاق وقف إطلاق النار عبرها منذ اتفاقيات فض الاشتباك في حرب 1973؟

هذه السطور كتبت قبل صلاة الجمعة 1 أبريل، قبل أن نعلم ما حدث فيها، لكن قد تكون الفرصة لا تزال سانحة أمام النظام السوري ورئيسه لصنع التاريخ بإصلاحات تجعل من الثورة أمرا ترغب الأمة السورية في تجنبه، وتحول مظاهرات الغضب والاحتجاج إلى مظاهرات الفرح والترحيب بإصلاحات لم يسبق لها مثيل في تاريخ ما يعرف في مصر بـ«بر الشام».