المواطنة والهويات الفرعية

TT

أسئلة كثيرة تطرح نفسها مع تقادم الأحداث في المنطقة العربية، وأحد أهم الأسئلة التي تتبادر إلى الأذهان هو: هل ستفرز الثورات والانتفاضات العربية هوية جديدة للمجتمع المدني العربي؟ وكيف يمكننا أن نتصور هذه الهوية في منظومة ما بعد الشمولية؟

ليس بخاف على أحد أن التغييرات الكبيرة التي حصلت في المنطقة العربية في جزء مهم منها هي ثورات اجتماعية على واقع فاسد بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معان وصفات. وبالتالي، فإن من المسلم به أن إحدى أهم نتائج هذه الثورات هي ولادة مجتمع مدني جديد غير مرتبط بالنظم الشمولية كما كان سائدا في الحقب الماضية من جهة، ومن جهة ثانية ولادة قوانين وأنظمة جديدة من شأنها أن ترتقي بالمجتمع المدني نحو الأفضل.

وعندما نقول هذا، فإننا ننطلق من بديهية واضحة جدا قائمة على أن الثورات العربية المعاصرة التي حدثت وتحدث الآن، هي ليست من صنع أحزاب المعارضة أو العسكر بقدر ما هي نتيجة تحرك شعبي واسع اتفقت شرائح المجتمع على القيام به بعيدا عن أي آيديولوجية أو مرجعية فكرية أو دينية. وبالتالي، فإنها مثلت بالفعل مجمل فعاليات المجتمع المدني العربي، حتى وإن كان ذلك بشكل عفوي غير منظم في مراحله الأولى.

وقد يقول البعض بأن غياب القيادة الموحدة للثورات والانتفاضات العربية يجعل الصورة قاتمة أمام الرأي العام العالمي، وهذا ما تجلى بوضوح في الحالة الليبية حيث ظلت أميركا تبحث عن آيديولوجية الثوار. وهذا خطأ كبير جدا ترتكبه أميركا، لأنها بتصوراتها هذه أفرغت الثوار الليبيين من خاصية المواطنة الليبية وراحت تبحث في التفرعات الثانوية التي هي بالتأكيد لا ترتقي إلى مستوى المواطنة الحقة. وبالتالي، كأنها تسعى عبر هذه التصورات لمحاولة إيجاد هويات فرعية ثانوية تنفذ من خلالها إلى المجتمع الليبي بغية تركيبته وفق تصوراتها هي، وهذا ما حدث في الشأن العراقي الذي نظرت إليه أميركا من هويات فرعية أضرت بشكل أو بآخر بمدنية المجتمع العراقي، وأبعدت مفهوم المواطنة عن مساراته الحقيقية وغلبت الفئوية والطائفية على ما سواها من العناوين الكبيرة.

اليوم ومن خلال قراءة متأنية لمسيرة الأحداث في بلدين عربيين مثل مصر وتونس، بعد أن تجاوزا مرحلة الثورة ودخلا مرحلة التعددية والديمقراطية، نجد أن هنالك حالة تشبه إلى حد كبير استنساخ التجربة العراقية في بناء المجتمع المدني، سواء التونسي أو المصري، وفق نظرية الإقصاء والتهميش وما يمكن أن ينتج عنهما من آثار سلبية كبيرة وعميقة، مع محاولة لإبراز تيارات معينة ستكون هي الأقوى في المرحلة القادمة. ولعلنا جميعا تابعنا الاستفتاء على التعديلات الدستورية في مصر الذي كشف عن الهوية القادمة لمصر بشكل أو بآخر، هذه الهوية التي لا تتعدى الأحزاب الإسلامية وتياراتها مع تغييب محتمل للقوى العلمانية والليبرالية، وحتى القومية منها. والحال ينطبق أيضا على تونس التي بلغ عدد الأحزاب المؤمل اشتراكها في الانتخابات القادمة نهاية يوليو (تموز) 2011 حدود 102 حزب موزعة ما بين إسلامية وعلمانية وعروبية قومية. وبالتأكيد فإن البعض ينظر إلى أن هذا التنوع يصب في صالح الديمقراطية، والبعض الآخر يجد أن مصر وتونس تتجهان نحو دخول النفق المظلم من خلال التعددية القائمة على المناطقية والفئوية، وقد تكون طائفية خاصة في مصر، وربما في تونس بشكل أكبر بحكم وجود قوى إسلامية تعرضت للقمع في فترة حكم بن علي وما قبله. وبالتالي، فإن هذه القوى تجد في نفسها الأكثر استحقاقا بالحكم من غيرها على غرار التجربة العراقية التي هيمنت على مشهدها العام القوى الإسلامية، سواء السنية منها أو الشيعية.

ومع هذا نجد أن الانتخابات القادمة التي حددت في سبتمبر (أيلول) لمصر، و24 يوليو في تونس، ستكشف عن مدى قدرة الشعبين على بناء مجتمع مدني ديمقراطي قائم على أساس المواطنة وليست العناوين الفرعية الثانوية الضيقة. وهذا بالتأكيد يتوقف على مدى وعي الشعب وهو يصوت، ورؤيته لمفهوم الديمقراطية، وتقديره لقيمة صوت الناخب وتأثيرات ذلك على هوية المجتمع المدني الجديد.

* كاتب عراقي