راحت السكرة وغابت الفكرة!

TT

«مش ها نمشي.. هو يمشي».. هو ليس أكثر الهتافات شهرة في ميدان التحرير، غير أنه أكثرها قوة وتأثيرا، بعد أن استطاع في بلاغة نادرة وموسيقية جميلة أن يعرض طرفين لمعادلة احتلت اللاوعي عند الثائرين وغير الثائرين، ودفعتهم بعد أن غادروا الميدان إلى البحث المحموم عن ذلك الـ«هو» الذي يجب أن يمشي، أي أن يختفي من حياتهم.

«هو» المقصود بالهتاف في الميدان والواضح للجميع، كان شخصا واحدا هو الرئيس السابق محمد حسني مبارك، غير أن الهتاف أثبت أنه ممتد المفعول خارج الميدان، اتضح أن كل إنسان له «هو» خاص به، وإذا كانت الـ«نحن» في الميدان تمكنت من دحر الآخر فلا بد من أن ينتصر كل إنسان على الـ«هو» الذي يختاره. العاملون في التلفزيون وقفوا في الشارع أمام المبنى وصاحوا مطالبين قياداته بأن تمشي، وتمكنت الشرطة العسكرية من تهريب هذه القيادات عبر مخارج سرية من المبنى قبل أن يفتك بهم المتظاهرون، وهو أيضا ما فعله العمال والمحررون في الجرائد القومية.. أما في مؤسسة «روزا اليوسف» فكانت درجة حماسة العمال أكثر سخونة، فاقتحموا مكاتب المسؤولين واعتدوا بالضرب على مساعد مدير تحرير المجلة لإقناعه بأن يمشي، فمشى بالفعل محمولا على نقالة إلى غرفة الإنعاش بمستشفى قريب. وكان تعليق مدير التحرير على ما حدث لافتا للنظر: لست أعرف صلة العمال بمدير التحرير، لا شيء يربطني بهم، أنا أعمل مع المحررين فقط.. ما هو بالضبط الخطأ الذي ارتكبته في حقهم؟!

لا أعرف هل وجد إجابة على سؤاله أم لا، غير أني أرى أن الإجابة بسيطة للغاية.. من المعروف أن القيادات العليا في المؤسسات الصحافية لا تذهب إلى مكاتبها مبكرا، مديرو وسكرتارية التحرير فقط ومساعدوهم يذهبون مبكرا لإدارة دولاب العمل، لقد هاجمه العمال لأنهم لم يجدوا رئيس مجلس الإدارة أو رئيس التحرير، وهو الأمر الذي يحتم مستقبلا، تلافيا لهذا الخطأ، أن يذهب رؤساء مجالس الإدارات ورؤساء التحرير إلى مكاتبهم قبل بقية العاملين بنصف ساعة على الأقل.

منذ يومين، مشى بالفعل كل أو معظم رؤساء مجالس إدارات وتحرير الصحف والمجلات، بوصفهم رموزا للنظام السابق، وتم تعيين آخرين لإتاحة الفرصة لهم ليثبتوا أنهم رموز جيدة للنظام الحالي الذي يصعب لغير الخبراء تبين ملامحه. ستلاحظ أن كل هذه المتاعب حدثت فقط في إعلام القطاع العام لقدرة قياداته على المشي سريعا بعيدا عن مواقعهم، أما الإعلام الخاص فله أصحابه الذين لا يفهمون في حكاية «المشي» هذه، غير أني مهتم فقط على نحو خاص بما حدث في كلية الإعلام، بوصفها بلد المنشأ وميناء التصدير لبضاعة الميديا المصرية. إن الاقتراب من آليات التفكير عند طلبة هذه الكلية والتعرف على ملامحها أو طريقتها في الدوران، يعطينا فكرة واضحة عن طبيعة الميديا في مصر لعقود كثيرة قادمة، ففي نهاية الأمر، هذه الكلية ستكون المصنع الذي يمدنا بالمحررين ورؤساء التحرير والمسؤولين في المحطات الفضائية.

لقد تظاهر الطلبة وطلبوا من الأستاذ سامي عبد العزيز عميد الكلية أن يمشي، بوصفه رمزا واضحا من رموز النظام القديم، ولأنه كان بالفعل عضوا في أمانة السياسات بالحزب الوطني، وبعد أن تصاعدت الضغوط والهتافات قدم الرجل استقالته إلى رئيس الجامعة، غير أن رئيس الجامعة وجد أن هذه الطريقة في إدارة الأمور تتعارض مع صلاحياته كرئيس للجامعة والمسؤول الوحيد عن إدارة كلياتها، فلم يوافق على طلب الطلبة المتظاهرين، أي أنه لم يستسلم لقاعدة «مش ها نمشي.. هو يمشي»، وهنا بدأ التصعيد الذي يكشف لنا بدقة عن مستقبل الميديا المصرية.. حوصر الرجل في مكتبه، نام الطلبة على الأرض أمام المكتب، ولأنه إعلامي محترف فقد أدرك الفخ الذي يقودونه إليه، فلكي ينصرف من المكتب عليه أن يمشي على أجسامهم، وفي المساء في فضائيات العالم كله سيشاهد الناس أفلاما قصيرة عن ذلك الأستاذ المتوحش الذي يمشي على أجساد طلبته، ولا بأس بعدة قصص خبرية عن ذلك الطالب الذي توقفت كليته عن العمل بعد أن داس عليه الأستاذ بقدمه الثقيلة، لذلك بقي الرجل في مكانه لثماني ساعات استمرت خلالها المفاوضات لفك أسره وبعد أن فشلت، استنجد بالشرطة العسكرية التي جاءت واستطاعت بطريقة ما إخراجه. هم لا يرون في احتجاز شخص بغير مسوغ قانوني، انتهاكا لحقوق الإنسان، وإلى الأبد سيرون الأمر على هذا النحو، هذا هو ما تعلموه من أساتذتهم وعليهم أن يطبقوه عليهم وعلى الأجيال القادمة!

ولكن الهدف لم يمش بعد، لذلك أضرب عدد كبير منهم عن الطعام، وبدأت المستشفيات القريبة تتلقى هؤلاء الذين أصيبوا بحالات إعياء شديدة، هنا نتعرف على أهم ملامح الميديا المصرية التي كانت والتي ستكون.. الابتزاز. وبعد الابتزاز يأتي المنطق الفاسد، تقول طبيبة معلقة في إحدى الفضائيات: حرام عليك.. ده إحنا جالنا حالات كانت على وشك أن تموت.. حرام عليك يا راجل.. بقى تسيبهم يموتوا عشان تقعد على الكرسي؟!

في هتافاتنا القديمة وأدبياتنا الوطنية، كنا نصيح: نموت نموت ويحيا الوطن. لم يحدث مطلقا أن هتفنا: نموت نموت ويمشي العميد أو أي كائن آخر. هنا نصل إلى ملمح آخر من ملامح الميديا المصرية.. احتقار الحياة وسهولة اللعب بها، ليس حياة الآخرين فقط، بل وحياتنا أيضا. غير أن العميد لم يكن بلا أنصار من الطلبة أو الأساتذة، أحد هؤلاء الطلبة صعد إلى سطح الكلية ووقف على السور مهددا بأن يلقي نفسه على الأرض إذا لم يتوقف المتظاهرون عن مطالبهم. كلا الطرفين استخدم أكثر الأشياء قداسة عند البشر، وهي الحياة، كجزء من لعبة استعراض القوة.

في أحيان كثيرة، هؤلاء الذين يشعرون بالألم، يعجزون عن التعرف على مصادره بداخلهم، هؤلاء الشباب الذين يتضورون جوعا من أجل هدف لا يفهمه أحد، وهو أن يمشي العميد، يتألمون لسبب آخر بعيد كل البعد عن أسبابهم المعلنة، هم على وشك التخرج ويفكرون في الضياع الذي ينتظرهم بعد التخرج. المشكلة الحقيقية هي في وجود أجهزة الإعلام المصرية بكل محطاتها وجرائدها ومجلاتها بغير صاحب، لقد عجزت كل الحكومات المتعاقبة في مصر بعد سقوط سور برلين عن التعامل بجدية مع هذه المشكلة، لأن النظام كان يتصور أن وجودها ضروري للدفاع عنه، إلى أن اكتشف أن الإعلام في هذا العصر موجود في مكان آخر لا سلطة له عليه.. بيعوها يا سادة.. بيعوها جميعا لكي يجد هؤلاء الشبان مكانا يعملون فيه!