استثنائية أوباما

TT

لندن - بالقرب من مدينة قرطاجة التونسية، توجد مقبرة أميركية تضم رفات 2.841 عسكريا أميركيا، يمثلون ضحايا حملة شمال أفريقيا في الحرب العالمية الثانية. من بين هؤلاء القتلى شاب من مدينة ستيلووتر بولاية مينيسوتا، كان في الخامسة والعشرين من عمره عندما قتل في 29 مارس (آذار) 1943. كنت أجلس في شرفة المنزل حينها وأتساءل أي ريح تلك التي تحمل شابا من قارة هادئة إلى الموت على شاطئ بعيد للغاية.

كانت الإجابة دائما أن الولايات المتحدة دولة دائمة الحركة، فقد بنيت عبر استقبال الأفراد من العالم ومن ثم لا تستطيع أن تُعرض عنه. وعلى الرغم من مضي عقود على مقتله لا تزال ذكرى وفاة لوند تطارد أفراد أسرة زوجتي الأولى. ومع تردد ذكر أماكن «حرب الصحراء» ضد هتلر - طبرق وبنغازي وطرابلس - وعودة القوات الأميركية إلى ليبيا، أخذت أفكر بشأن لوند والقوة الأميركية.

رأيت وأنا أفكر أن أبرز ما يواجه الرئيس باراك أوباما في الوقت الراهن هو حدود القوة، فأوباما لا يزال واقعيا حول نوع المثالية السائدة. وهو يميل بالفطرة والتجربة إلى أرض وسط. فعندما تولى الرئيس أوباما مقاليد الأمور في البلاد التي استنزفتها الحرب كانت هناك نقاشات مستفيضة عززت من ميله إلى إنهاء التدخل العسكري الأميركي في الحروب الخارجية.

استثنائية أوباما - الانطباع بأن الولايات المتحدة كمنارة أخلاقية تحولية - جعلته مشوشا، فالأطلسية التي جاءت كثمرة الحرب التي سلبت لوند حياته، لم يكن لها سوى تأثير انفعالي بسيط على رجل كان يبلغ من العمر 30 عاما إبان انتهاء الحرب الباردة. في المقابل كانت البطالة وفقد الوظائف في المنزل الشغل الشاغل له.

ورغم ذلك، شارك هذا الرئيس الحذر، الذي تحدث بلباقة عن القوة الأميركية - بأسباب - في نزاع جديد في ليبيا، التي قال عنها وزير الدفاع إن الولايات المتحدة لا توجد لديها مصالح استراتيجية فيها. انضم الرئيس إلى صف طويل من القادة الأميركيين الذي أعادوا اكتشاف الحتمية الأخلاقية التي لا تنفصل عن الفكرة الأميركية.

كان هناك الكثير من الأسباب الجيدة للابتعاد عن الشأن الليبي، فالقوة الرئيسية التي كانت تحرك الربيع العربي كانت قادمة من الداخل. وكانت شكوك اللفتنانت بشأن الغرب لا أساس لها. لم يكن أوباما بحاجة إلى دروس في الاستعمار، فدروسه مغروسة فيه. لكن هل يمكن له، كأول رئيس أفرو - أميركي للولايات المتحدة أن يقف مكتوف الأيدي تجاه ما تفعله قوات معمر القذافي على شواطئ شمال أفريقيا؟ ربما لم تكن هناك مذبحة، بل ربما حمام دم آخر متواضع من تنفيذ القذافي. لكن القذافي ليس هتلر ولا صدام، لأن طبيعة حزب البعث القتل، ومن ثم أقول إن الرئيس أوباما كان محقا في أن يرسم خطا في الرمال الليبية.

لقد كنت من بين الرافضين لإنشاء منطقة حظر للطيران على ليبيا، معتقدا أن الأمر لا طائل منه. وكان الشيء الذي لا يمكن غفرانه مشاركة الولايات المتحدة في الضربات الجوية. وأعتقد أن أوباما أوفى، بالقنابل، بهذا المعيار الأولي، وذلك بتفويض قوي من الأمم المتحدة يعكس دبلوماسيته لإصلاح تلك السنوات الماضية. (الأمم المتحدة كما أشار أمينها العام الأسبق داغ همرشولد «لم تنشأ لتنقل البشرية إلى الجنة، بل لتنقذهم من الجحيم»).

لكن ما الأمر الآن؟ هناك هجوم للحلفاء في شمال أفريقيا يدعى «عملية الإيجاز»، لها نتائج مختلطة، لكني أستعير الاسم. والمسارعة في إقصاء القذافي، كانت هدفا للقادة الغربيين لا يمكن التراجع عنه، ونحن نعلم ما سيحدث إذا ما فترت الهمم في حرب «ماد ماكس» هذه. فسوف ينهار التحالف وسيتسلل الجهاديون إلى الدولة الفاشلة من حدودها المفتوحة من كل الجهات وستبدأ عملية الرعب.

قد يسقط نظام القذافي عبر 3 طرق: إما عبر الهزيمة العسكرية، وهي الأقل احتمالية بالنظر إلى الازدحام الفوضوي للمتمردين على الطريق الساحلي السريع، وإما عبر رحيل مفاوض عليه، وهو احتمال بعيد على الرغم من الوساطة التركية، وإما عبر تخلي الدوائر المقربة منه عنه، وهو الاحتمال الواعد بصورة أكبر.

وربما يكون في هروب موسى كوسا وزير الخارجية الليبي إلى لندن الجائزة الأكبر للجهود الأميركية والبريطانية المكثفة لدفع كبار مساعدي القذافي إلى التخلي عنه.

وفي الوقت ذاته تواصل نبرة الحاشية المحيطة بالقذافي تغيرها، ففي البداية كانت مذعورة، ثم تحولت إلى لغة حماسية والآن محتجة وهو أمر مشجع للغاية. ومن ثم ينبغي القيام بكل ما يلزم في سبيل تحقيق ذلك. المحادثات مع ليبيا في السنوات الأخيرة. هذا النظام تبدو عليه علامات التداعي، والمحادثات مع ليبيا في السنوات الأخيرة كانت تعني أن كبار المسؤولين لديهم صلات مع أقطاب النظام الذين ينبغي تأليبهم على النظام، وربما يكون عبد الله السنوسي الهدف الأبرز في ذلك.

إن تبني الرئيس أوباما لهذه الفكرة المتشددة، التي تقول بأن «الولايات المتحدة مختلفة» في الظروف الحرجة، وإحراجه للدول التي قد تغض الطرف عن الفظائع التي ترتكبها الدول الأخرى (القوى الناهضة مثل البرازيل وروسيا والهند والصين، التي امتنعت جميعها عن التصويت على القرار بشأن ليبيا) يجب أن يقدم الآن تفسيره الصحيح للاستثنائية الأميركية.

يشاء القدر أن يكون نائب الرئيس للأمن القومي من ستيلووتر أيضا، وهذه مصادفة، لكنْ ثمة رابط، فالولايات المتحدة هي الأقوى عندما تتفق قيمها ومصالحها معا، ولن تكون الولايات المتحدة كذلك إذا ما أولت ظهرها لما قدمه لوند من تضحيات، والأميركيون يدركون ذلك. ولعل ذلك هو السبب في أن الحتمية الأخلاقية أمر لا ينفصل عن الفكرة الأميركية، لكنها لا تنفصل عن إعادة الانتخاب مرة أخرى.

* خدمة «نيويورك تايمز»