أولويات الإخوة العرب

TT

في لقاء مع صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية، تحدث الرئيس السوري بشار الأسد في 31 يناير (كانون الثاني) 2011 عن أحداث مصر وتونس حينها، وأكد أن الثورة لن تمتد إلى سورية، لأن مواقفه المناهضة لإسرائيل وأميركا جعلته أقرب إلى شعبه، وكلما كان الرئيس أقرب لمعتقدات شعبه لن تكون هناك فرصة لحدوث اضطرابات.واضح أن الجماعة العربية كانت متحفزة نفسيا وفكريا منذ عقود للانقضاض على العدو الصهيوني الذي سيقتحم الباب، رغم أنه انقضاض ناعم في أحسن أحواله، ولكنهم تفاجأوا بأن النار تشتعل من غرفة المعيشة..

الحقيقة أن أيا من مظاهرات الشرق الأوسط لم تناد بالمقاومة وطرد العدو الصهيوني، رغم أنها أطاحت بأنظمة وبدلت عروشا، بل لم يكن الحديث عن استعادة الأرض على هامش مطالب الشعوب الثائرة التي سكنت الشوارع وتجرأت على الرؤوس الكبيرة. كان حديث الخبز أهم من السلاح، وضرب الفساد أولى من ضرب إسرائيل.

الدليل على ذلك، أن أحدا لم يلق تركيزا على تبادل إطلاق الصواريخ بين إسرائيل وكتائب عز الدين القسام في غزة خلال الشهر المنصرم الذي خلف قتلى وجرحى، من الجانب الفلسطيني بالطبع، بينهم أطفال ونساء. كان الجمهور العربي منشغلا بمتابعة سقوط الأنظمة والحكومات حوله أو بين ظهرانيه، لأنه الأمر الذي مس بشكل مباشر استقراره وحياته ومعيشته اليومية، فجعله أولوية، وفعليا قضيته الأولى.

في وقت الغضب، تظهر مواقف الناس الحقيقية، ويعيدون ترتيب أولوياتهم بكثير من الصدق والتلقائية، لأن خلط أولويات الناس بفعل التعتيم الإعلامي أو بتوجيه من السياسيين وأرباب الأحزاب وبعض المثقفين، يزرع الضبابية في أذهان الناس.

صحيح أن قضيتنا مع إسرائيل جوهرية، ولن تنتهي إلا بعودة الحق لأهله، ولكن الحكم على حياة المواطن العربي بالتراجع للمرتبة الثانية حتى تعود الأرض المحتلة هو التفاف على الحقيقة من أجل الحفاظ على مكتسبات شخصية أو حزبية أو طائفية. القضية الأولى يفترض أن تكون المواطن العربي نفسه، حتى يكون قادرا على تبني قضايا أخرى، فالأجساد الواهنة لن يقوى ظهرها على حمل هم آخر حتى وإن كان هما قوميا وعروبيا ساميا.

الفلسطينيون ليسوا بحاجة لمؤازرة ونصرة من شعوب جائعة، ومقموعة وخائفة، ففاقد الشيء لا يعطيه..

لقد خرج اليابانيون من صدمة التفجيرات الذرية ليجدوا أمامهم خيارين؛ إما أن يعيدوا ترتيب جيوشهم ويستقووا بأعداء الأعداء لينتقموا لأنفسهم، أو يطووا هذه الصفحة ويختاروا البناء. خلال أربعين عاما تلت ذلك كانت اليابان قد أصبحت دولة صناعية منافسة للدولة التي استهدفتها.

بعض الحكومات العربية جعلت من موضوع المقاومة وعداء إسرائيل أساسا لكرامة المواطن العربي، فأرضعت أطفالها حليب المقاومة، وكل من ينبس ببنت شفة حول هذا المبدأ حتى لو على سبيل تغيير سياسات المواجهة، سيتهم بالعمالة والتخوين، شخصا كان أم دولة.

كبر شباب حليب المقاومة ليجدوا أن جبهات القتال تغرد فيها العصافير بدلا من صوت إطلاق الرصاص، ويسمع فيها وقع سقوط الإبرة على الأرض عوضا عن دك الصواريخ، بل إن أصحاب الأرض الفلسطينية المسلوبة شرذمتهم صراعات الكراسي، فعرفوا متأخرا أن كرامة الإنسان هي أن يحيا بلا خوف، ويعمل عملا شريفا ليقوت نفسه وأولاده، وما عدا ذلك فهو في مقعد الدرجة الثانية.

لقد تبين أن إشغال الناس بحديث المقاومة لم يطعمهم من جوع ولم يؤمنهم من خوف، بل اقتص من حقوقهم كمواطنين، ولم يقدم لهم على الأرض أي أرض. الإيرانيون اكتشفوا ذلك مبكرا، فرفض كثير منهم مسرحيات فقهائهم حول توزيع مقدرات الدولة الإيرانية لتغذية الأحزاب الخارجية باسم المقاومة وتحرير القدس. لم يقبل الشعب الإيراني الذي يعيش 50% منه تحت خط الفقر أن تذهب عوائد نفطه وسجاده وزعفرانه وفستقه لجيب حزب الله وحماس باسم المقاومة، ولم ينخدعوا بحجة أن بناء القوة النووية الإيرانية كان بدافع ضرب إسرائيل، فإسرائيل تعيش في أجواء عالية من الطمأنينة لدرجة أنها تبتكر أفكارا مذهلة حول الحفاظ على أمنها واستقرارها كان آخرها بناء جزيرة اصطناعية أمام ساحل غزة بمطار ومرفأ، مرتبطة بالقطاع بجسر بهدف الخلاص من مشكلاته.

إسرائيل آمنة وفي رخاء ونمو اقتصادي متواصلين، أقصى ما يعكر أجواءها هو الشد والجذب الداخلي عن إقرار قوانين ضد عرب 48، أو خارجيا حول قرار البدء بالمفاوضات المباشرة، فمجرد بدء المفاوضات هو حديث مطول في الكنيست، أما خلاف ذلك فكل أمور الإسرائيليين تسير على ما يرام.

الإسرائيليون لم ينخدعوا بقضاياهم الأمنية عن المطالبة بحقوقهم الطبيعية كمواطنين، مع أنهم ينامون مع الأعداء منذ ستين عاما، لم يتحول كل الإسرائيليين إلى رجال أمن، بل تفوقت الحكومة في دفع التعليم النوعي ومستوى الرعاية الصحية والاجتماعية وكل الخدمات التي تكفل حياة كريمة لمواطنيها، رغم أن واحدهم لو ينظر من شرفة بيته تجاه تل عربي لن يجد من ذلك كله شيئا.

* جامعة الملك سعود

[email protected]