لماذا نطق العدم مجددا في العراق؟

TT

خطف الرهائن واحتجازهم من أجل المساومة عليهم هو عمل إرهابي تلجأ إليه الكثير من العصابات المنظمة والحركات السياسية المسلحة لتحقيق مطالب معينة، لكن ماذا نسمي احتجاز الرهائن من دون دافع ومن دون مساومة أحد عليهم ومن دون تقديم مطالب المختطفين أو التعريف بهويتهم؟ هل يمكن أن يكون ذلك سوى فعل عدمي، لا غاية له سوى رغبة انتحاريين أن يصطحبوا معهم أكبر عدد ممكن من الضحايا؟ حتى الانتحاريون الذين عرفناهم في العراق سابقا كانوا يتحججون بمبررات سياسية أو دينية مهما بدت سخافتها، إلا أن ذلك على الأقل يجعلنا نفهم (وليس نتفهم) ما يفعلون، أما المجموعة التي اقتحمت مجلس محافظة صلاح الدين واحتجزت عددا من أعضائه وموظفين في المحافظة، وقام أعضاؤها، بحسب شهود عيان، بتفجير أنفسهم، فإنها لا يمكن أن تكون إلا ممثلة للعدم، لا غاية لديها غير الموت، والموت بكثرة وبوحشية وبلا رحمة.

ولكن لماذا نطق العدم مجددا في العراق بهذه الوحشية؟

خلفية الحادث الزمنية وقعت بعد أيام قليلة من إعلان جماعات، كانت تحسب نفسها على «المقاومة المسلحة»، تخليها عن السلاح ورغبتها في الدخول في الوضع السياسي الجديد بعد نبذ العنف كخيار ووسيلة، وهي رأت أن الاتفاقية الأمنية وتعهد الحكومة العراقية والتزام الحكومة الأميركية بإنهاء الوجود العسكري المسلح في العراق.. ذلك كله يمثل مبررا كافيا لنهاية ذريعة مقاومة الاحتلال الأجنبي. لكن السبب الحقيقي في رأي البعض يكمن في أن هذه الجماعات فقدت في الآونة الأخيرة وبفعل الأوضاع الجديدة والمتأزمة في المنطقة مموليها وداعميها الإقليميين، وانقطعت عنها إمدادات مالية واستخباراتية وربما تسليحية، مما جعل الكثير من أعضائها يحسبون الأمر بشكل واقعي ولا يرون مبررا للمضي قدما في صراع فقد الكثير من زخمه ومبرراته وأدواته، لا سيما أن العراق لم يعد محور الاهتمام الإقليمي، وجميع دول الإقليم باتت في حالة استنفار دفاعا عن نظمها الداخلية وربما حدودها، والكثير من الاهتمام الدولي يتجه إلى شمال أفريقيا وليبيا، التي للمفارقة كان مقاتلوها يمثلون نسبة مهمة بين المقاتلين الأجانب في العراق، وفي أغلب الأمر أن معظم من نجا منهم التحق بصفوف المقاتلين ضد نظام القذافي في ليبيا، كما أن بعضهم ربما كانوا عملاء لهذا النظام الذي لم يخف أبدا تعاطفه وحنينه للنظام العراقي السابق؛ حيث الطيور على أشكالها تقع.

«المقاومة» في العراق لم تعد تجارة رابحة، كما كانت عليه خلال السنوات الماضية؛ فالأميركيون أنفسهم أظهروا استعجالا للخروج والتزموا بما ورد بالاتفاقية الأمنية مع الحكومة العراقية، وأظهرت إدارة أوباما ميلا قويا نحو طي صفحة العراق واعتباره مشروعا لا يخصها. كما أن كل الجماعات التي رفعت شعار المقاومة وبحكم طبيعتها المسلحة وحاجتها إلى الدعم المالي واللوجيستي، ارتبطت عن علم أو غير علم بأجهزة استخبارات أجنبية، وبعضها تحول إلى ميليشيات مرتزقة تنفذ تعليمات من جهات ممولة خفية لا تندرج في دائرة هدفها المعلن، أي أن القتل والتفجير أصبحا حرفة أكثر من كونهما وسيلة لغاية معينة، كما تفترض فكرة المقاومة. معظم الدول التي بنت شبكات استخباراتية وأذرعا مسلحة داخل العراق لجأت إلى هذا النوع من الجماعات واستخدمتها كأغطية لنشاطات معينة، وهو أمر اعتادت بل وتمرست النظم الشرق أوسطية عليه منذ زمن حرب الفصائل الفلسطينية والحرب الأهلية في لبنان. ولأن مجمل الإقليم يتعرض اليوم لهزة كبيرة، والكثير من هذه النظم إما اختفت وإما ضعفت وإما تغيرت أولوياتها، فإن جزءا مهما من «صناعة الموت» في العراق قد أصابه الكساد. أما الذين ظلوا يتاجرون بشعارات المقاومة في الدول الإقليمية كتلك المجموعة التي زارت القذافي وامتدحته وأعطته هدايا باسم «الشعب العراقي» وأشادت بعبقريته وبطولاته وبوقوفه المزعوم إلى جانب العراق، فإنها بدورها تواجه كسادا كبيرا وأبوابا موصدة مع تغير بوصلة المنطقة.

يبقى أن الوضع العراقي لم يتجاوز هشاشته بعدُ؛ فبقدر ما أن المعركة الداخلية والإقليمية كانت كبيرة في السابق، يبدو أن طي المرحلة السابقة سيكون مكلفا وربما دمويا ما دامت الدولة العراقية أسيرة الانقسام والتشرذم والضعف والاختراق والفساد. من الواضح أن خروج العراق من دائرة الاهتمام المحوري لا يعني نهاية الصراع فيه، فهنالك جماعات تسعى لجذب الانتباه إلى الساحة العراقية بأي وسيلة ممكنة، وتنظيم القاعدة في صدارتها، وكذلك جماعات أخرى انشقت عن تلك التي ألقت السلاح، ستميل إلى هذا النوع من الأعمال اليائسة من أجل أن تبرهن على قوتها وقدرتها المعطلة، وهو رأسمالها الأخير بعد إفلاس فكرة المقاومة المسلحة. وربما هنالك مصلحة لدى البعض في إثارة عنف «عدمي» كبير في العراق ليس للدفع باتجاه خروج القوات الأميركية كما كان يزعم فيما سبق، بل لأجل إبقائها.

كما أن الصراعات السياسية التي أخذت تنفذ إلى الأجهزة الأمنية والعسكرية، وتنعكس بصورة العجز على الاتفاق حول الوزراء الأمنيين، وبصور التصفيات والاغتيالات داخل الجيش، كما حصل مؤخرا مع قائدين عسكريين كبيرين، تنذر بأن العنف بات يتحول من صيغة الصدام بين الدولة وميليشيات مسلحة، إلى صراع داخل المؤسسة العسكرية المرشحة للعب دور أكبر في حالة أي انسحاب أميركي من العراق.

العدم نطق في العراق مجددا لأننا في مرحلة إفلاس الشعارات، وإفلاس المسلحين، وإفلاس الميليشيات، ولكن ما يجعله قابلا للاستمرار هو إفلاس مزمن لدى الطبقة السياسية في العراق.