العرب والديمقراطية

TT

في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية أصبح النموذج الغربي للحكم مطلبا سواء من الجماعات السياسية او من قبل القوى الدولية الرئيسية، وأصبحت الديمقراطية صنوا للشرعية. بسقوط الفاشية في ايطاليا وألمانيا صارت كل اوروبا الغربية على ذات النموذج كما جربت الدول المستعمرة زرع نموذجها ببناء برلمانات في دول مثل العراق وسورية ومصر والسودان والهند لكن معظمها فشل بعد خروج المستعمرين. 

ثم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، اي بعد نحو ثلاثة عقود من التجربة الاولى، تبنت الدول الاوروبية الشرقية تجربة شقيقاتها الغربية. مرت نحو عشرين سنة اخرى وبعضها لا يزال يصارع بين ارثه اليساري ومحاولة تبني النظام الديمقراطي الغربي، وربما لولا الرعاية الغربية المادية والرقابية لتحولت نصفها الى دول ديكتاتورية. اما في العالم الثالث فإن التجربة بقيت فاشلة بشكل مريع لأكثر من نصف قرن، سواء في الشرق الاوسط او افريقيا او وسط اسيا او جنوب شرقي اسيا، وفي بعض الدول اللاتينية. 

لهذا انا انظر الى المشهد الجديد اليوم في العالم العربي واتساءل السؤال نفسه في أي طريق تسير الثورات الجديدة؟ ولانه من الظلم الحكم على تجارب عمرها بضعة اسابيع فمن الافضل ان ننتظر ونرى. لكن تبدو مصر مختلفة آخذين في الاعتبار انها مرت بمراحل انتقال تاريخي فيها تسلسل منطقي. فالانجليز بعد خروجهم لم يعمر نظامهم البرلماني، لأن التجربة جاءت من فوق. ورغم مظاهر ديمقراطية ويستمنستر كمجلس الشعب، فقد الغى النظام الجديد بصعود جمال عبدالناصر الانتخابات الحرة وقضى على حريات الصحافة ولم يحتج احد. وبعد عقدين من انغلاق عبد الناصر، فتح انور السادات الباب الموصد وخفف قبضة النظام قليلا. ثم جاء حسني مبارك، هو الآخر ومنح مساحة اكبر للحريات والممارسات الحزبية، لكن ظل كحاكم يمسك بسلطة هائلة على كل مناحي الحياة السياسية حتى خرجت الثورة الاخيرة، عمليا هي الفصل الرابع من الرواية الديمقراطية ولو تحققت مطالبها بانتخابات حرة ونزيهة تكون مصر اول دولة عربية تدخل نادي الديمقراطيات الغربية وهذا امر علينا ان نرصده بدقة، وتكون مصر ركبت القطار للذي فات الجميع. فشلت عندما كانت مشروعا حاول البريطانيون فرضه من فوق وما كان له ان يستمر بغض النظر عمن تولى الحكم بعد ذلك.  

ولا أدري من هي الدولة العربية المرشحة الثانية لركوب القطار، ربما تونس. اما ملامح تجربة العراق فهي غير مشجعة، ومع ان مسار العراق التاريخي في الخمسينات مماثل لمسار مصر الا ان الوعي الشعبي لا يزال متأخرا كثيرا. وكل الدلائل تشير اليوم الى فشل المشروع الاميركي بخلق نموذج ديمقراطي. صحيح ان الانتخابات مورست مرتين بشكل واسع في البلاد لكن يجب ان نتذكر انها جرت وعلى الارض مائة وعشرون الف جندي اميركي. الانتخابات المقبلة بعد ثلاث سنوات وسنرى مصيرها بدون وصي اميركي ان كانت ستتم حينها نستطيع ان نعرف افضل. 

خارج مصر يصعب ان نلمس تطورا تاريخيا متكاملا مما يجعل الحديث عن انتقال العرب نحو الديمقراطية فيه مبالغة شديدة. فالهبة الشعبية في اليمن لاسقاط الرئيس لانه خرج عن الحكم الديمقراطي تتم بدعم القبائل والمناطق، مما يجعل البعض يصفها بأنها حركة تغيير قبلية، والرعاية القبلية لا يمكن ان تعتبر ضمانة للديمقراطية. باختصار نرى التجارب العربية مختلفة وان كانت الانتفاضات الشعبية حدثت في الوقت نفسه، تعلمنا من تجارب خمسين سنة ان الديمقراطية ما لم تكن ثقافة محلية ومطلبا شعبيا فإنها تتحول الى مطية يركبها الانتهازيون مهما رفعوا من شعارات ووعود.

 

[email protected]