إعادة النظر في تقرير غولدستون الخاص بجرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل

TT

نعرف الكثير اليوم عما حدث في الحرب الأخيرة على غزة التي حدثت عام 2008 - 2009 أكثر مما كنا نعرفه في الوقت الذي ترأست فيه بعثة تقصي الحقائق التي أرسلها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة والذي تمخض عنها التقرير الذي بات يعرف باسم تقرير غولدستون. لو كنت أعرف ما بات اليوم معروفا في ذلك الوقت، كان سيختلف التقرير.

وجاء في التقرير النهائي للجنة الخبراء المستقلين التابعة للأمم المتحدة تحت رئاسة القاضي السابق ماري ماكغوان ديفيس التي تابعت توصيات تقرير غولدستون إن «إسرائيل خصصت موارد كبيرة للتحقيق في 400 اتهام بشأن التجاوزات التي حدثت في غزة، بينما لم تفتح السلطة الفعلية، أي حماس، أي تحقيق بشأن إطلاق الصواريخ وقذائف الهاون على إسرائيل».

وأورد التقرير دليلا على ارتكاب إسرائيل وحماس لجرائم حرب وربما جرائم ضد الإنسانية. ولم يتم التعليق على الجرائم التي اتهمت حركة حماس بارتكابها، حيث استهدفت الصواريخ مدنيين. واستندت الاتهامات التي وُجهت إلى إسرائيل الى وفاة وإصابة مدنيين، ولم تستطع بعثة تقصي الحقائق العثور على دليل يمكّنها من التوصل إلى نتائج منطقية تثبت عكس ذلك. على الجانب الآخر أثبتت التحقيقات التي أعلنها الجيش الإسرائيلي واعترف بها تقرير لجنة الأمم المتحدة صحة بعض الوقائع التي حققت فيها اللجنة والتي ثبت تورط جنود في الجيش الإسرائيلي بها. كذلك أشارت إلى عدم استهداف الجيش للمدنيين.

على سبيل المثال ركزت أخطر الانتقادات التي وُجهت إلى تقرير غولدستون على مقتل 29 فردا من أفراد عائلة السيموني في منزلهم. لقد كان واضحا أن قصف المنزل كان نتيجة قراءة خاطئة لصورة التقطتها طائرة بدون طيار. ويتم التحقيق مع أحد الضباط الإسرائيليين حاليا بسبب إعطائه أوامر بتنفيذ هذا الهجوم. ورغم طول مدة التحقيقات، يبدو أن هناك خطوة جارٍ اتخاذها وأنا على ثقة من اتخاذ إسرائيل موقفا في حال ثبوت إهمال الضابط. إن غرض هذه التحقيقات كما قلت في السابق هو ضمان تطبيق مبدأ المساءلة في حال القيام بأفعال غير صحيحة وعدم الاعتماد على التخمين والاستفادة من قراءة الموقف عند اتخاذ القادة العسكريين قرارات صعبة على أرض المعركة.

وفي الوقت الذي أرحب فيه بالتحقيقات التي تجريها إسرائيل في هذه الاتهامات، يساورني القلق ذاته الذي تجلى في تقرير ماري ديفيس من عدم الانتهاء من الكثير من التحقيقات الإسرائيلية ومن عدم الإعلان عن الإجراءات. ورغم أن الأدلة الإسرائيلية التي ظهرت منذ نشر التقرير حتى الآن لا تعوض خسارة المدنيين المأسوية لحياتهم، أشعر بالندم على عدم توفر هذه الأدلة لبعثة تقصي الحقائق التي رأستها، حيث كان من الممكن تفسير المواقف التي حدث بها استهداف مدنيين في ضوئها وبالتالي تؤثر على نتائج البعثة الخاصة بالتعمد وارتكاب جرائم حرب.

ونتيجة لعدم تعاون إسرائيل مع التحقيق الذي أجريناه لم نستطع التمييز بين القتلى المدنيين والمقاتلين وتحديد عدد كل منهم. وتبين أن الإحصاءات التي أعلنها الجيش الإسرائيلي كانت قريبة من تلك التي أعلنتها حماس رغم أن لدى حماس الأسباب التي تدعوها إلى تضخيم عدد مقاتليها.

وكما أشرت منذ البداية، كان ينبغي أن أرحب بالتعاون الإسرائيلي. لم يكن غرض تقرير غولدستون يوما التوصل إلى نتيجة تدين إسرائيل؛ فقد أصررت على ضرورة تغيير مندوب مجلس حقوق الإنسان الذي انتقدته إسرائيل. لقد كنت واضحا دوما بأن إسرائيل لديها الحق في الدفاع عن نفسها ومواطنيها ضد أي هجمات سواء من الداخل أو الخارج شأنها شأن أي دولة أخرى ذات سيادة. لكن الأمر الذي لم يتم الاعتراف به في أحيان كثيرة هو أن تقرير غولدستون أشار إلى التحقيق وإدانة أول الأعمال الإرهابية غير القانونية التي قامت بها حركة حماس وأدانتها الأمم المتحدة.

لقد كنت آمل أن يدشن التحقيق الذي شمل كافة الجوانب المتعلقة بالصراع في غزة عهدا جديدا من المساواة في طريقة تعامل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الذي يزخر تاريخه بوقائع الانحياز ضد إسرائيل. واتهمنا البعض بعدم الالتزام بالمعايير القضائية في الإجراءات التي اتبعناها. ولتوضيح الأمر ينبغي القول إن مهمتنا لم تكن مهمة قضائية أو حتى تقترب من ذلك، فنحن لم نكن نحقق في جريمة جنائية ارتكبها شخص في إسرائيل أو غزة أو الضفة الغربية. لقد خرجنا بتوصيات تقوم على السجل المتوفر أمامنا والذي لم يكن يشتمل مع الأسف على أي دليل مقدم من الحكومة الإسرائيلية. وأوصى التقرير الطرفين بإجراء تحقيقات تتسم بالشفافية وحسن النية بشأن الوقائع والأحداث التي أشار إليها التقرير. ووجدت ماري أن إسرائيل قد قامت بذلك إلى حد بعيد، بينما لم تفعل حماس أي شيء.

ويرى البعض أنه من السخف الانتظار من حركة حماس التي تتبع سياسة تدمير دولة إسرائيل، فتح تحقيق بشأن ما توصلنا إليه من أن ما حدث كان جرائم حرب خطيرة. وكان أملي أن تقوم حماس بذلك حتى إن لم يكن ذلك واقعيا خاصة أن إسرائيل قامت به. وعلى أقل تقدير كان يحدوني الأمل في أن تحد حماس من هجماتها ردا على ما تم التوصل إليه من تورط عناصرها في ارتكاب جرائم حرب. من المؤسف أن هذا لم يحدث، فقد تم إطلاق مئات من الصواريخ وقذائف هاون على أهداف مدنية في جنوب إسرائيل. على الجانب الآخر لا يقلل مقتل عدد قليل من الإسرائيليين من جرّاء إطلاق صواريخ وقذائف هاون من قطاع غزة من حجم الجريمة. وينبغي أن يدين مجلس حقوق الإنسان هذه الأفعال المشينة الشنيعة بلهجة قاسية.

في النهاية ربما يكون من الخطأ الطلب من حماس إجراء تحقيق. ينبغي على مجلس حقوق الإنسان إدانة المذبحة الأخيرة غير المبررة التي ارتكبت بدم بارد والتي راح ضحيتها زوجان إسرائيليان شابان وأطفالهما الثلاثة في أسرّتهم. لكني ما زلت أؤمن بضرورة تطبيق القانون الدولي في الصراعات الطويلة المهلكة. لقد أثمر التقرير عدة دروس مستفادة وتغييرا في السياسات تضمنت اتخاذ جيش الدفاع الإسرائيلي إجراءات جديدة لحماية المدنيين في حالة شن حرب على مناطق سكنية والحد من استخدام الفسفور الأبيض في تلك المناطق. وقد أجرت السلطة الفلسطينية تحقيقا مستقلا في الاتهامات الخاصة بانتهاك حركة فتح لحقوق الإنسان وتنفيذ عمليات اغتيال وتعذيب واعتقال غير قانوني في الضفة الغربية خاصة بحق عناصر من حركة حماس. وأثبتت التحقيقات صحة أكثر هذه الاتهامات. لكن مع الأسف لم تبذل حركة حماس من جانبها أي جهد للتحقيق في الاتهامات التي وجهت إليها بارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية.

يمكن القول ببساطة إن قوانين النزاع المسلح تنطبق على أطراف لا تمثل دولا مثل حركة حماس مثلما تنطبق على جيوش الدول. إن ضمان احترام هذه الأطراف لتلك المبادئ والتحقيق معها في حال عدم التزامها بها من أهم التحديات التي تواجه قانون النزاعات المسلحة. لن نستطيع حماية المدنيين الذين علقوا دون إرادتهم في تلك النزاعات المسلحة إلا في حال التزام كافة أطراف النزاعات بهذه المعايير.

* الكاتب قاض متقاعد بالمحكمة الدستورية بجنوب أفريقيا والمدعي العام السابق في المحكمتين الجنائيتين الدوليتين في يوغوسلافيا ورواندا، وتولى رئاسة بعثة تقصي الحقائق بشأن النزاع في غزة